تقارير

السودان: بين حكومتين وحصارين ومجاعتين: هل تسير الدولة إلى التفكك الكامل؟

تقرير - رشا رمزي

في الوقت الذي تعقد فيه الأمم المتحدة جلسة خاصة لمجلس الأمن، اليوم الإثنين 4 أغسطس 2025، لمناقشة تطورات الوضع في السودان، يبدو المشهد السوداني أكثر تعقيدًا وانقسامًا من أي وقت مضى. جلسة نيويورك، التي دعت إليها المملكة المتحدة والدنمارك، تُعقد على وقع حصار خانق تعيشه مدينة الفاشر في شمال دارفور، وتحت قصف عنيف تتعرض له مدينة الأبيض في شمال كردفان، وفي ظل إدارتين متناحرتين تدّعي كل واحدة منها أنها تمثل “الدولة”. هذا الواقع لا يعكس فقط أزمة سياسية أو عسكرية، بل يُجسّد انهيارًا وشيكًا في بنية الدولة السودانية ذاتها.

مجلس الأمن

مجلس الأمن على الهامش… والسودان في الهاوية

عشية الجلسة، تبدو التوقعات منخفضة من أي تقدم ملموس. فمجلس الأمن، الذي سبق أن تبنى عدة قرارات منذ بدء الحرب في أبريل 2023، بما فيها دعوات لوقف إطلاق النار خلال شهر رمضان وإدخال مساعدات عاجلة إلى دارفور، أثبتت التجربة أنه عاجز عن فرض أي قرار على الأرض. القرار الصادر في يونيو 2024 بشأن فك الحصار عن الفاشر لم يُنفذ، بل ازداد الوضع سوءًا. وزارة الخارجية السودانية حملت قوات الدعم السريع المسؤولية عن تجاهل القرار، بينما واصلت هذه القوات تعزيز مواقعها حول المدينة ومنعت دخول الإغاثة.

ويعلق الباحث في الشؤون الدبلوماسية عمر عبد الرحمن بأن “جلسات مجلس الأمن فقدت فعاليتها الفعلية بسبب انقسام القوى الكبرى داخل المجلس، ما يجعل كل قرار رهن التجاذب بين الفيتو الروسي والدعوات الغربية”. ويضيف: “تكرار القرارات دون تنفيذ يعزز شعور القوى المحلية بعدم جدوى النظام الدولي، ويغري أطراف النزاع بفرض الوقائع بالقوة”.

مدينة الأبيض

الفاشر تختنق… والمجاعة تطرق الأبواب

في مدينة الفاشر، الوضع لم يعد يحتمل التأجيل. المنظمات الإنسانية تتحدث عن “مؤشرات مجاعة واضحة”، وسط انهيار النظام الصحي وتوقف الإمدادات الغذائية بالكامل. تقارير المطبخ المجتمعي والمراكز الطبية تشير إلى نقص حاد في المحاليل الوريدية، وغياب تام للحليب المجفف للأطفال، وانتشار أمراض الإسهال الحاد وسوء التغذية الحاد وسط آلاف النازحين.

حصار الدعم السريع، الذي بدأ منذ أشهر، أدى إلى توقف كامل لحركة البضائع والأدوية. ويقول أحد المتطوعين من داخل المدينة إن “الناس يطهون أوراق الأشجار ويشربون مياه الآبار الملوثة، ولا أحد يعلم كم من الوقت يمكن أن يستمروا على هذا الحال”.

مدينة كادقلي

حكومة في نيالا… وأخرى في بورتسودان

في خضم الكارثة الإنسانية، يبرز الانقسام السياسي في أوضح صوره. فبينما يجتمع مجلس الأمن، تتوسع حكومة “تحالف تأسيس” التي أعلنتها قوات الدعم السريع من نيالا أواخر يوليو الماضي. الحكومة الجديدة، التي يتولى رئاستها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تضم مجلسًا رئاسيًا من 15 عضوًا، وتزعم تمثيلها للهامش السوداني، معلنة نيالا عاصمةً إدارية بديلة.

هذه الخطوة التي لاقت رفضًا إقليميًا ودوليًا، جاءت كرد على الحكومة المدنية التي أعلنها الجيش في مدينة بورتسودان بقيادة كامل إدريس. ومنذ ذلك الحين، يتحدث كل طرف بلغة “الدولة”، ويصدر قرارات تنفيذية، ويجري لقاءات دولية ومحلية، دون أن يكون لأي من الطرفين سلطة كاملة على الأرض. في الواقع، باتت كل منطقة في السودان تخضع لإدارة مختلفة، ومعايير حياة مختلفة، بل حتى عملة مختلفة، بعد أن اتهمت “تأسيس” حكومة بورتسودان بتغيير العملة لمصلحة مناطق الوسط فقط.

مدينة الخرطوم

الأبيض… الجبهة القادمة

على الجانب الآخر، تشتعل المعارك في إقليم كردفان. قوات الدعم السريع أعلنت تقدمها نحو مدينة الأبيض الاستراتيجية، بعد سيطرتها على مناطق أبو قعود وجبل الحراز، مشيرة إلى أنها تقترب من تطويق المدينة بالكامل. من جهته، نفى الجيش هذه الادعاءات، مؤكدًا صموده في الخطوط الدفاعية.

ما يزيد من خطورة الوضع أن الأبيض تستضيف عشرات الآلاف من النازحين، وتُعد من آخر مراكز الدولة الفاعلة في غرب السودان. سقوطها – إن حدث – لن يكون مجرد نكسة عسكرية للجيش، بل سيكون مقدمة لتفكك الدولة السودانية فعليًا إلى كيانين متوازيين.

مدينة بورتسودان

شرق السودان… وحدة هشة وتحالفات محلية

في ظل الانقسام العسكري والسياسي، تسعى حكومة إدريس في بورتسودان لتعزيز سلطتها عبر التحالف مع القيادات الأهلية في شرق السودان. اللقاء الأخير بين إدريس والناظر محمد الأمين ترك يأتي في هذا السياق، حيث أكد الأخير دعمه الكامل لحكومة بورتسودان، في محاولة لخلق كتلة إقليمية موحدة ضد مشروع “تأسيس”.

غير أن هذا الاصطفاف لا يخلو من التوترات، خاصة مع تصاعد الخلافات حول تبعية الموارد، مثل ما جرى مؤخرًا في قرار تحويل تبعية جبل البوم الغني بالذهب من محلية دلقو إلى وادي حلفا. القرار الذي صدر من الوالي فجّر موجة غضب مجتمعية، وفتح الباب أمام فتن قبلية واقتصادية، تعيد إلى الواجهة السؤال المحوري: من يدير الدولة؟ ومن يملك حق اتخاذ القرار فيها؟

مدينة الفاشر

اعتداءات الحدود… دولة بلا حراس

الانقسام لم يترك أثره فقط في الداخل، بل كشف عن هشاشة الدولة على أطرافها. ففي باسندة بولاية القضارف، قُتل أربعة رعاة سودانيين على يد مليشيات إثيوبية، في هجوم مسلح استهدفهم أثناء الرعي. الواقعة ليست الأولى، لكنها تعكس الغياب شبه الكامل للدولة في المناطق الحدودية، وسط انشغال الجيش بالحرب الداخلية، وتضاؤل وجوده على تخوم البلاد.

مدينة نيالا

تكلفة الانقسام: لا دولة بلا وحدة

بين حكومتين تتنافسان على الشرعية، وجبهات عسكرية متعددة، ومجتمعات محلية مفككة، ودولة عاجزة عن الدفاع عن حدودها أو إطعام مواطنيها، يبدو أن السودان يدفع الثمن الفادح للانقسام السياسي والعسكري. ومهما بلغت جلسات مجلس الأمن، أو تعددت دعوات وقف إطلاق النار، فإن الواقع لن يتغير ما لم تتوفر إرادة وطنية صادقة تعيد الاعتبار لمفهوم الدولة الواحدة.

اليوم، لم تعد القضية في من يحكم الخرطوم، بل إن الخرطوم نفسها لم تعد مركز الحكم. المشهد السياسي والعسكري يمتد إلى نيالا، الأبيض، بورتسودان، جبل البوم، وود عرود، وكل مدينة أو منطقة باتت تُدار بمنطق الغلبة لا بمنطق القانون. وهذه هي الوصفة الكاملة لانهيار الدول.

السودان يقف اليوم على حافة الانهيار الكامل. المجاعة تلوح في دارفور، والانفصال السياسي يتكرس في نيالا، والحرب تستعر في كردفان، والفتن القبلية تتصاعد في الشمال، والحدود الشرقية تنزف دون رقيب. في ظل هذا كله، لا يمكن الحديث عن “حكومة انتقالية” أو “حوار سياسي” دون مواجهة الحقيقة الأساسية: لا سبيل إلى استعادة الدولة إلا عبر توحيد مركز القرار، ووقف الحروب، وتحقيق عدالة توزيع الموارد، وفرض القانون، وتكريس دولة المؤسسات لا دولة الميليشيات.

فإما أن يتوحد السودانيون حول مشروع وطني جامع، أو يتفرقوا تحت رايات متعددة، كل منها تدّعي الحق، ولا تمتلك القدرة على إنقاذ أحد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى