تقارير

السودان: “تأسيس” والسيناريو الليبي

تقرير - رشا رمزي

في الوقت الذي يعيش فيه السودان واحدة من أعقد الأزمات السياسية والعسكرية في تاريخه الحديث، ظهرت مبادرات وتحركات تعكس تصدع الدولة وانقسام مشروعها الوطني. من بين هذه التطورات، برز إعلان “تحالف تأسيس” بقيادة قوات الدعم السريع عن تشكيل حكومة موازية في غرب السودان، في خطوة وصفها مراقبون بأنها تكرّس الانقسام المؤسسي وتهدد بمسار شبيه بالسيناريو الليبي، حيث تتواجه حكومتان متصارعتان على الشرعية والسلطة والنفوذ.

رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، محمد يوسف المصطفى، أطلق خلال استضافته في برنامج “قبل الجدل” على قناة “العربية” تحذيرات واضحة من مآلات الأزمة، معتبرًا أن الحرب الدائرة منذ أبريل 2023 تحوّلت من صراع على السلطة إلى مأساة إنسانية وانهيار مؤسسي شامل. المصطفى، الذي كانت حركته في السابق أقرب إلى الحكومة والجيش، كشف عن تحوّل استراتيجي بانضمامها لتحالف مع قوات الدعم السريع، في دلالة على إعادة تشكيل التحالفات السياسية والعسكرية في السودان وسط غياب أفق سياسي واضح.

رئيس الوزراء السوداني

وبينما تزداد رقعة الحرب وتنهار مؤسسات الدولة، أُعلن في مدينة الجنينة عن انعقاد ملتقى موسّع لتقييم تجربة الإدارات المدنية في مناطق سيطرة الدعم السريع، بحضور قيادات محلية وممثلي المجالس التأسيسية. الملتقى لم يكن مجرد لقاء إداري، بل جاء تتويجًا لمحاولة قوات الدعم السريع ترسيخ سلطتها عبر ما أسمته “نواة لحكومة تأسيس”، تتخذ من نيالا عاصمة إدارية ومن الجنينة عاصمة اقتصادية.

تصريحات الدكتور حذيفة مصطفى أبو نوبة، رئيس المجلس الأعلى للإدارات، والنذير يونس، المشرف العام على الإدارات المدنية، حملت إشارات واضحة إلى نية هذه الهياكل منافسة الحكومة المركزية في بورتسودان، بل ومزايدة عليها من خلال الخطاب السياسي الداعي إلى “إنصاف المهمشين” وتأسيس واقع بديل.

في المقابل، وصف إمام الحلو، رئيس لجنة السياسات في حزب الأمة القومي، الحكومتين المتنازعتين في نيالا وبورتسودان بأنهما غير شرعيتين، مؤكّدًا أن كلا الطرفين يستند إلى القوة العسكرية لا إلى التفويض الشعبي. وأشار إلى أن ما يجري هو مجرّد امتداد للصراع السياسي وتحويل البلاد إلى ساحة للمجابهة، دون مراعاة لمصلحة الشعب السوداني أو لوحدة أراضيه.

تحالف تأسيس

وتزامن هذا التصعيد مع تأجيل الاجتماع المرتقب للجنة الرباعية المعنية بالأزمة السودانية، ما أثار موجة إحباط واسعة وسط السودانيين. تأجيل اللقاء، الذي كان من المفترض أن يُعقد في واشنطن، فُسر على أنه مؤشر على وجود تباينات بين الدول الراعية – الولايات المتحدة، مصر، السعودية، والإمارات – حول طبيعة التسوية وهوية الأطراف التي ينبغي الاعتراف بها. وبينما نقل السفير المصري معتز زهران إمكانية عقد اللقاء في سبتمبر، كانت قوات الدعم السريع تستثمر في الفراغ الدولي لتثبيت واقع جديد على الأرض.

الولايات المتحدة كانت قد حدّدت أهداف الاجتماع المؤجل، من بينها إطلاق عملية سياسية شاملة، ووقف التدخلات الخارجية، وضمان وحدة السودان. لكن الواقع الميداني يسير في اتجاه مغاير، فالحكومة الموازية التي أعلن عنها تحالف “تأسيس” وضعت المجتمع الدولي أمام معضلة: الاعتراف بحكم الأمر الواقع في مناطق الغرب أم التمسك بالحكومة المعترف بها دوليًا في الشرق.

إقليمياً، جاء بيان مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي حازمًا في رفضه لحكومة “تأسيس”، مؤكدًا دعمه للحكومة الانتقالية برئاسة كامل إدريس، ومطالبًا بوقف فوري لإطلاق النار والعودة إلى طاولة الحوار. الاتحاد الأفريقي اعتبر إعلان الحكومة الموازية تهديدًا لسيادة السودان ووحدة أراضيه، داعيًا المجتمع الدولي إلى عدم تقديم أي دعم لها.

خريطة السودان

وفي خضم هذا التعقيد، تتضح للمتابع للشأنن السوداني ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل السودان، الأول، أن تدفع الرسائل الدولية طرفي النزاع إلى استئناف التفاوض خوفًا من تدخلات خارجية أكثر صرامة، ربما تقودها إدارة أميركية جديدة. الثاني، أن تتصاعد الحرب وتتسع رقعتها، ما يفاقم المعاناة الإنسانية. والثالث، وهو الأخطر، أن تتهيأ البيئة فعليًا للانفصال السياسي والإداري، بما يكرّس وجود حكومتين متقابلتين في الشرق والغرب، ويحوّل السودان إلى مشهد يشبه التجربة الليبية في الانقسام والفوضى.

من هنا يتضح لنا أن ما يجري في السودان ليس إلا “انهيار مؤسسي كامل”، حيث دخل السودان مرحلة فقدان السيطرة المركزية، وأصبح رهينة لتحالفات مسلّحة غير مستقرة، ما يجعل من احتمالات التفكك الجغرافي والسياسي أمرًا مرجّحًا ما لم يحدث تدخل دولي حازم يعيد ترتيب المشهد.

في النهاية، يبدو أن السودان يقف على مفترق طرق خطير. بين مشروع “التأسيس” في الغرب وحكومة “الجيش” في الشرق، وبين الفراغ الدولي والتقاطعات الإقليمية، تزداد احتمالات الانقسام، ويغيب الأمل في حل قريب ما لم تُستعاد الإرادة الوطنية على أسس جديدة تتجاوز الماضي وتنقذ الدولة من مصير باتت معالمه تتشكّل بوضوح، ولا يختلف كثيرًا عن ليبيا المجاورة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى