
إذا تقصينا أبعاد التحرير الصحفي فالأمر أسوأ من المحيط إلى الخليج. ولأن صحافتنا نشأت على اعتاب المصرية.
فقد ظلت المقالات تذيل بدرجة الكاتب الأكاديمية، أو المهنية، أما كتابة الأخبار فإنها لا تقوم على قاعدة مهنية في كثير من الأحيان. وعلى وزن فخامة الرئيس مفدي الأمة وحامي حماها تقدم أخبار الرئاسة.
وأياك أن تنسى لقب الفريق، أو المشير، حين تستطرد أثناء الخبر، فربما تجد نفسك في الشارع إن صدرت الصحيفة في اليوم التالي وفي صدر مانشيتها غياب الإشارة للدرجة المهنية، أو العلمية، للرئيس، أو الوزير.
أما درجة دكتور، أو لواء، أو مهندس، أو شيخ، فلا يتم الاكتفاء بها فقط وإنما يمتلئ الخبر كله باللقب.
والمدهش أنه يمكنك أن تحصي عدد اللقب خمسة مرات في خبر صغير لا يتجاوز فقرتين.
على طول المنطقة وعرضها لم تشذ عن هذه الانتهاكات المهنية سوى صحيفة الحياة اللندنية الرصينة في أخبارها، وحواراتها، ومقالاتها.
ففي عهد رئيس تحريرها جهاد الخازن، وهو حاصل على درجة دكتور، قررت التخلي عن إيراد الألقاب العلمية في الأخبار والمقالات.
إذ تكتفي بتعريف محمد عابد الجابري، إذا نشرت له مقالا، كأن تكتب في نهاية المقال: عميد كلية الفلسفة بجامعة محمد الخامس، مثالا.
ويحضرني هنا أن وزيرة خارجية أميركا السابقة غونزاليزا رايس قد حازت على شهادتي دكتوراة ولكننا لم نقرأ في الواشنطن بوست، أو النيويورك تايمز، أو نسمع في السي ان ان، أو أي قناة أخرى، أن اسمها سبق بلقب أو باللقبين معا، كما كانت تفعل الصحافة المصرية التي تتناول أخبار الدكاترة زكي مبارك.
والواقع أن تراث الجامعات الأميركية، والغربية عموما، يخلو من ابتذال الدرجات الأكاديمية في المجال العام، بل إن هذه الجامعات العريقة مثل هارفارد، وييل، وبرينستون، وكورنيل، لا تسبق في دورياتها العلمية اسم الباحث بدرجته الأكاديمية مطلقا، وإنما تعرفه فقط في ذيل البحث إن كان عميدا يوما، أو مؤلف كتاب ذائع الصيت.
وإذا بحثت في كل أرشيف الكونغرس فلن تجد البتة مقالا لنعوم تشومسكي، أو هنري كيسنجر، مسبوقا بدال.
أما إذا كتب جورج بوش مقالا للصحيفتين العريقتين فإنه يجب أن يعلم أن مقاله قابل للمراجعة اللغوية، ويحتمل إعادة صياغة الجمل بما يتماشى بالأسلوب اللغوي للصحيفة، على ألا يحلم بتعريف في ذيل المقال سوى بتعريف رئيس سابق للولايات المتحدة.
إن الفضيلة الأخلاقية تتطلب من نخبنا، خصوصا التي تنشط باتجاه التغيير نحو الديموقراطية، وإعلاء الشفافية في الممارسة العامة، وتوطين التنوير، أن تضاعف نموذج الهاشمي المتسق مع ذاته، ومهنية الكتابة، وأن تكتفي فقط بحصر استخدام درجاتها العلمية في مدارج الجامعات لا أن تتنزل به إلى الساحات العامة لتحقق ما تفترضه امتيازا.
وأناشد أولا جميع أصدقائي الدكاترة أن ينشروا مقالاتهم، أو أشعارهم، أو روايتهم، بلا تذييل بأي درجة علمية وليكون رهانهم فقط على المضمون الذي يطرحونه للقراء الكرام.
وبذلك يكونوا قد حققوا نقلة مثالية في توطين الشفافية في مجال العمل العام، وأثبتوا صدقا في مساعيهم النبيلة لرفع درجات الوعي السياسي، والاجتماعي، والثقافي.