مقالات

عبد العزيز الحلو.. مفازة الريح والصمت

عبد الجليل سليمان

في صباحٍ اهتزت فيه جبال النوبة كما لو أنها تتنفس لأول مرة، وُلد عبد العزيز آدم الحلو في قرية “الفيض أم عبد الله”، حيث الأرض تحفظ أصوات الريح كما تحفظ الهمس الأول للتاريخ، وحيث الأطفال يتعلمون منذ نعومة أظفارهم كيف يسمعون أصوات السرّ في القرى الصغيرة، دون أن يعلموا أن الجبال تراقبهم بعين واحدة صامتة. في تلك القرية، كان الماء يهمس بأسماء الماضين، والحجارة تروي قصص الأيام الغابرة، والسماء التي تتأرجح بين الغيم والضوء تكتب المستقبل بخط خفي على وجوه القادمين، فتتشابك الطبيعة مع الذاكرة، ويصبح كل حجر وكل شجرة كأنها تحمل سرّ البشرية كلها.

همسات الطفولة

في المسالك الضيقة لقريته، حيث الطين يلتصق بأقدام الصغار وتنسل الرياح بين البيوت بلا استئذان، تعلم الحلو أن العالم ليس مجرد مكان يُرى، بل مسرح من الضوء والظل، حيث لكل صوت أثر ولكل خطوة وقع في ذاكرة الأرض. كان الصبر أداة للبقاء والملاحظة نافذة على المستقبل الذي لا يُرى إلا للذين يعرفون قراءة الريح والحجارة. بين دفء الشمس وهدير الليل، تكوّن شعور مبكر بالمسؤولية واليقظة، كما لو أن الجبال غرست فيه معرفة عن التوازن بين القوة والرحمة، بين الحدس والحقيقة.

ألوان الخرطوم

حين وصل إلى الخرطوم، المدينة التي تصدر ضوضاءها كأمواج متلاطمة على صخور الزمن، وجد نفسه بين دفاتر الاقتصاد والمعادلات، وأصوات الطلاب التي تهتف بالحقيقة الخفية، وصرخات الشوارع التي تحاول رسم خريطة للوعي. كلية الاقتصاد لم تكن مكانًا للتعلم فقط، بل مختبرًا لصنع عقل يوازن بين الأرقام والبشر، بين الرغبات والممكن، وبين ما هو واقعي وما يظل أسطورة في قلوب الباحثين عن المعنى. 

في ساحات جامعة الخرطوم ، التقى زملائه الذين سيصبحون لاحقًا شركاءه في الحركة السياسية، ومن بينهم يوسف كوه مكي، الذي لم يكن مجرد رفيق دراسة، بل مفتاح لدخول عالم التنظيم السياسي، حيث تُصنع القرارات في صمت الغرف المظلمة وتتحقق الاستراتيجيات في الجبال البعيدة، في مزيج من الدراسة والتخطيط والتأمل الذي سيصبح لاحقًا محور حياته كلها.

جبال الأسرار

في عام 1986، انضم الحلو إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان، ليجد نفسه بين الصخور والغابات، حيث كل شجرة تحكي سرًا وكل وادٍ يختبئ خلفه تاريخًا لم يُكتب بعد. 

في كلية الدراسات العسكرية ” الدرع الرابع ” التابعة للحركة الشعبية حيث تلقى تدريبه العسكري، تعلم أيضاً أن الخرائط ليست مجرد خطوط، بل شرايين حياة، وأن الصبر والذكاء الاستراتيجي لهما وزن الرصاص، وأن كل خطوة على الأرض يجب أن تُحسب بحذر كما تُحسب قطرات المطر قبل أن تصب في النهر. 

في جبال النوبة، حيث الريح تحمل رائحة الدم والأمل معًا، تعلم أن القيادة ليست امتلاك القوة فقط، بل القدرة على تحويل المخاطر إلى فرص، والفوضى إلى نظام، والألم إلى معرفة خفية تجعل كل من حوله يرى ما لا يُرى ويشعر بما لا يُقال.

مرآة الطريق

تدرج الحلو في المناصب العسكرية والسياسية، من قائد متحرك إلى رئيس لجنة الخدمات، ثم قائد المناطق الشرقية وغرب كادقلي، وصولًا إلى رئيس قطاع الشمال. 

كل منصب كان كمرآة تكشف له جزءًا من ذاته التي لم يكن يعرفها، جزء من صمت الجبال، من صبر الأطفال، ومن أجنحة الريح التي تحمل أخبار البعيد. لم يكن مجرد قائد، بل نسيج بين الواقع والأسطورة، بين السياسة الناعمة وفخاخ وأحراش الجنوب.

خطواته موزونة، صوته كالريح التي لا تهدأ، يحمل بين طبقاته سنوات الملاحظة والصبر، ومعرفة أن العالم يظل يتغير، وأن القرار الواحد قد ينسج مستقبل آلاف الأرواح.

سلام متأرجح

في عام 2005، تولّى الحلو منصب حاكم المناطق المحررة بجنوب كردفان، ليعيد تنظيم الإدارة ويعيد الحياة إلى الأماكن التي تركها النزاع محطمة.

 بعد انفصال الجنوب، أصبح رئيسًا لقطاع الشمال في الحركة الشعبية، يعمل في الظلال بين خيوط السياسة وخطوط الجبال، محاولًا أن ينسج سلامًا ربما لن يُكتمل إلا بعد أن يرحل الجميع عن صخب الماضي. وفي 30 يوليو 2025، أدى الحلو القسم نائبًا لرئيس المجلس الرئاسي في حكومة “تأسيس”، تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). 

هنا، على الحدود بين الخرطوم ونيالا، بين الجبال والسهول، يقف كجسر بين الألم والأمل، بين الماضي والمستقبل، بين الظلال والنور.

خيوط الظل

عبد العزيز الحلو، كما تبدو الرواية، ليس بطلاً ولا شريرًا، بل تيارًا خفيًا يجري بين صخور الزمن وأعماق الجبال، عقل يتأمل بلا ضجيج، قلب يراقب دون أن يُسمع، وروح تسعى إلى الضوء في نهايات الظلال حيث الكلمات تتحول إلى أجنحة، والخرائط تنام في سرائرها، والجبال تهمس بحكاية لم تُروَ بعد. صوته حين يتحدث يشبه الريح العابرة على سهول بعيدة، يحمل بين طبقاته صدى التاريخ وبريق الفرص المحتملة، تاركًا أثرًا كأنما نُسج من الصمت والضوء والهواء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى