
بمناسبة أوبة المغنية ندى القلعة إلى الغناء لكونه مصدر رزقها الوحيد الذي لن يوفره لها الجيش لابد من كلمة. فلو أحسسنا بعض نبرات حزن على ما تفضلت بقوله في تسجيلها الأخير ناكصة بتصريحاتها السابقة التي تعاير بها زميلاتها اللائي لم يغنين للجيش، فإن المغنية أدركت أن عيش الفنان الحق على حر مال فنه، وبذلك لا تضع ندى السيف في موضع الندى. بل إن مغنيتنا – وهي قد عادت للتعيش بالفن لتحرك كذلك طاقة أعضاء فرقتها الذين لديهم التزاماتهم المادية الشخصية، والأسرية – لا بد أنها تابعت طرفاً من حوار اثنين من كبار أساتذتنا اللذين اختلفا حولها بعد أن أغمسا ريشتي قلمهما في شؤون الغناء ليتبينوا ثمرة غنائها بخلفياتهم التذوقية – الفكرية. وهذا أمر يثابا عليه كثيراً ما فتيء غناء أهل السودان من مسيس حاجتهم لترطيب حياتهم المليئة بالدم المسفوح بكثرة منذ الاستقلال. والأكثر من ذلك أن غناءنا ليس بريئاً من مسايرة أحلام طبقاتنا الثلاث المنتجة مجتمعياً عبر التاريخ القديم، والحديث. ففنانونا لهم ورقات ثلاث أيضاً لو وجدتهم يعبرون عن البلوتاريا، والطبقة الوسطى، وأفادنا الأستاذ عبد الوهاب وردي يوماً أن للطبقة الثالثة الثرية فنانهم. إذ ليس هو إلا ترباس كما أشار عبد الوهاب مغاضباً. فالحوار الذي دار بين د. عبدالله علي إبراهيم ود. حسن موسى حول ندى، والذي أُقحم اسمي فيه، يعيدنا إلى أيام خلت. كانت فيها الصحافة الورقية تثيرنا بالمتابعة لحوارات جمعة جابر مع يوسف الموصلي، وسليمان عبد الجليل وعبدالله جلاب حول صوت الجابري، أو بين مرسي صالح سراج وأصدقاء عثمان حسين أمثال الصحافي شريف طمبل، وربما يتذكر ذلك الجيل القاريء طرفاً من حوار صلاح احمد إبراهيم والنور عثمان أبكر حول عروبتنا، وكذا “الشكلة المهنية” بين محمد خليفة طه الريفي وبين محيي الدين تيتاوي حول الصحافي الدارس والمتدرب بغير شهادة إعلامية، وهناك كثير من السجالات الفكرية، والثقافية، والفنية، والرياضية، مبثوث في أضابير دار الوثائق حماها الله من الشفشفة.
كانت لنا أيام كما قال عثمان حسين، حيث للجريدة، والمجلة، سلطتهما ولكتابهما سطوتهم. ولذلك كان للثقافة، والغناء، والرياضة، هامش للاختلاف يعوض القراء إزاء غياب الاختلاف السياسي الممنوع في صحافة “القرش ببرش”. فأستاذنا عبدالله على أبراهيم دخل في ذلك الحوار بجلباب بلبسته فيجعل من ندى رمزاً للأغنية السياسية بينما وجدنا طبيبنا الثقافي حسن موسى يشرق، ويغرب، ليجعل من فنانة العاصمة بورتيكزان مجالاً موحياً لطرح مفاهيمه ما بعد الحداثية حتى يكتب موقفه السياثقافي عند الله بعيداً عن دغمسة أبناء، وبنات الطبقة الوسطى، كما يسميهم.
وحقيقة النطاق الذي تتحرك فيه ندى غناءً، وموقفاً، وسفراً، خصب للكلام منذ حين. ولكن لا أدري هل تتحمل الأستاذة مقارباتنا نحن الثلاثة أم ستتعقل ما يقوله الأستاذان، وتعده الساق الثانية للإبداع، أم ستجدها محلقة هكذا في نجوميتها، ولا تلقي بالاً للمثقفاتية كما قد ينصحها مدير أعمالها دمبوية؟.
وأيا كان حجم الخيبة العائدة مما قد تخرج به من كلام الأستاذين الجليل – وشخصي الضعيف حقاً – فإن من سطوة ندى “الفنسياسية” أن توصي بمنعي من الدخول عبر بوابة بورتسودان، كما أفصحت يوماً، وقالت إن دعاة “لا للحرب” ينبغي أن يشوفو ليهم بلداً طيرا عجمي كما فهمت.
وللتذكير فأنا واخوي الكاشف لسنا بلابسة داعمين للمر على حساب الأمر كما هو حال كبيرنا البروف. وعلى فكرة بورتيكيزان ذاتها تراجعت يوماً عن حلم ندوية بحرماننا كقحاتة، ودعامة، من العودة الميمونة، وقال الكاهن بإمكانية أن يعود المؤسس ذات نفسه إذا تاب مثل توبة كيكل.