منوعات

عن ماهية الشعر واللا شعر… قراءة في «الطواويس الهاربة» لـ”دينقديت أيوك” (1-3)

مشاوير - أنس عبدالصمد (*)

ماهو الشعر إذا لم يحدث العصيان

ماهو الشعر إذا لم يسقط الطغاة والطغيان

وماهو الشعر إذا لم يحدث الزلزال في الزمان والمكان.

نزار قباني

فهرس الكتاب

إذا أطلعنا على كل المحاولات التي تجرأت لتلد تعريفًا للشعر، من مفكرين وشعراء وفلاسفة، جميعها عجزت عن الإحاطة بتعريفه تعريفًا كاملًا، لكنها التمست جزءً يسيرًا من دلالاته ومعانيه، فحتى صديقي الكاتب والشاعر دينقديت أيوك عندما أشار في تصديره لمجموعته الشعرية الموسومة بـ«الطواويس الهاربة» إلى ما يعنيه له الشعر، ذكر جزءً من الأغراض التي يمثلها الشعر ويدور في محورها، لكن تلك الإشارات يجب أن تقود إلى الإحالة لمسألة ترجمتها إلى شعر بضوابط محددة تتمثل في الخصائص الفنية للنص الشعري، من صور شعرية وبنية إيقاعية وأساليب بلاغية، وذلك ينتج لنا لغة شاعرية تكون أعلى من سياق الكلام العادي، لها دلالات، وروح الشعر التي تخلق لنا عوالمًا من الدهشة ترتقي بروح النص، هذه الخصائص تمثل جوهر النص الشعري متى ما توافرت هذه المزايا تجعل العبق يفوح من جسد النص ليستنشق عبيره جمهور الشعر، ويحلق مع فراشاته الملونة إلى فضاءات تستعصي على اللغة العادية التحليق فيها، إذ يمسَّ الشعر عمق الوتين للقارئ عندما يصافح نصًّا، حتى يدرك أعماقه، فالنص الجيد في رأيي هو الذي لا يتوقف عن إدهاشك في كل مرة تقرأه فيها، لكثافته وثرائه في الشاعرية، والنص الجيد هو الذي عندما يقرأه الشخص العادي يشعر بأنه كُتِبَ لأجله وأنه يمثله في التعبير عن مكنوناته، وأنا أسيرٌ لسحر ملهمي الفيلسوف الفرنسي “بول فاليري” الذي نحت تعريفًا معقدًا للشعر، لكنه مدهشًا تمثل في عملية بناء جديد في أنقاض قديمة، وطريقًا لابد للسالك أن يشقه إذا أراد أن يحمّل اللغة أن تقول ما لا يمكنها قوله بالكلام العادي.

غلاف الكتاب

والشعر عندي هو: أن ترى وسط حدائق الغابة وردة أخفت الحشائش ملامحها لدرجة أن شخصًا عاديًا لن يلمحها أبدًا، ثم تقطفها لتعيد زراعتها وسط تربة جديدة وتضخ فيها ثقتها بالرحيق وتسقها بماء الدهشة باهظ العذوبة حتى إذا أرجعت غصنًا منها وغرزته وسط حشائش الغابة، احترقت الحشائش غيرة وبقي الغصن يضج بالعبق في المكان، فالشعر تسامي عن الكلام العادي، مشهد يقتطف من ملامح المارة من ذكرى عابرة من قبلة صادقة أطراف الليل، ليتم تحويلها إلى مشهد خالد في الذاكرة، لغة راقصة طروبة تعانق القلب قبل الأذن.

الشاعر دينقديت أيوك

لا يكمن الشعر في الأحاسيس والمشاعر التي تثوي دواخلنا فحسب، بل في كيفية ترجمتها إلى لغة تسمو عن ما نشعر به، وتتوجه في أعلى الصياغات اللغوية، التي تمنحه لذةً وتطريبًا يشعرك وأنت تقرأه أو تسمعه أنك تعانق جسد القصيدة فيتلاشى النص الشعري في أعماقك، حيث يتماهى النص وفقًا للدفقة الشعورية التي تناسبه من شعور، شجنًا وطربًا وإثارة، فإن كان مدحًا يفجر شعور الغبطة في القارئ قبل الممدوح، وإن كان هجاءً يفش غبينة الغاضب ويحرق أعصاب المهجو، وإن كان فخرًا يسري القشعريرة في جسد القارئ، هكذا هو الشعر، لذا فالشعور المعني بالضرورة يجب أن يترجم في سياق شعري ليتكيف مع روحه، ويكتسي بثوب الشاعرية، لا أن ننقله كما كان يسكننا، وإلا لما احتاج الشعر لجمهور يتذوقه، وشعراء يكتبونه، كان حريّ بكل شخص يمتلك مشاعرًا أن ينقلها في ورقة فتصبح شعرًا.

أنس عبد الصمد 

ما أود قوله هو أن المشاعر وحدها لا تكفي لتصير شعرًا ما لم يقُمْ بترجمتها شاعرٌ يمتلك أدوات محددة تسهم في تحويل الشعور إلى لوحة شعرية والمشهد العادي الذي يمر أمامه إلى مشهد إبداعي في مسرح القصيدة وهكذا يمكن أن تولد القصيدة أو يولد النص الشعري.

كما أن إدانة الظواهر السالبة، والاحتجاج ضد الظلم والفساد والمحسوبية والقتل والتشريد، وإشعال الوعي، تعتبر كلها من القضايا التي يمكن طرحها ومناقشتها ومعالجتها في القوالب الشعرية، فهي براحات في ميدان فسيح يلعب الشعر فيه دوراً مؤثراً، لكن ما لم يتم توظيف الأدوات الإبداعية للشعر في النص الذي كتب لهذه الأغراض سالفة الذكر، سيتحول النص المكتوب عن المحسوبية والفساد إلى مجرد تقرير إخباري عنها، وسيظل النص الذي كُتِبَ عن ما نشعر به من أحاسيس مجرد فضفضة بين صديقين يتبادلان التعبير عن مشاعرهما الخاصة، ويبوحان بأسرارهما في جلسة اجترار ذكريات غرامية.

* شاعر وقاص وناقد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى