جعفر عباس.. رائد الكتابة الساخرة في الصحافة العربية وصوت السودان الضاحك في وجه الألم
مشاوير - حمزة كبوش

يُعد جعفر عباس واحدًا من أبرز الأسماء في الصحافة العربية الحديثة، وكاتبًا ساخرًا من الطراز الفريد الذي جمع بين عمق الفكرة وخفة الظل، وبين السخرية اللاذعة والحكمة التي لا تُخطئ هدفها. وُلد في السودان وتخرّج في كلية الآداب بجامعة الخرطوم حاملاً بكالوريوس اللغة الإنجليزية، ليبدأ مسيرته المهنية معلّماً للإنجليزية في المدارس الثانوية، قبل أن ينتقل إلى فضاء الإعلام والصحافة حيث وجد نفسه الحقيقي.
بدأت رحلته الصحفية في صحيفة “اليوم” السعودية، ومنها لمع اسمه في الأوساط الإعلامية بعد انضمامه إلى صحيفة “الوطن” السعودية، التي كان يكتب فيها عمودًا ثابتًا في الصفحة الأخيرة، وهو العمود الذي منحه شهرة واسعة في المملكة والعالم العربي، لما امتاز به من نقد اجتماعي وسياسي ساخر يختصر الموقف بجملة واحدة لا تُنسى.

عرفت مسيرته المهنية تنقّلات ثرية ومتنوعة؛ فقد عمل في هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) منتجًا ومخرجًا تلفزيونيًا، كما عمل في التلفزيون السوداني وتلفزيون الجزيرة الريفي بود مدني، قبل أن يهاجر للعمل في الخارج حيث شغل مناصب رفيعة في عدد من المؤسسات الإعلامية الخليجية والعربية.
تنوّعت مناصبه بين كبير المحررين في صحيفة Emirates News ومدير التحرير في Times Union، إضافة إلى مدير العلاقات العامة والاتصال في شركة Country ومدير التحرير في وكالة المعلومات الدولية في قطر.
ورغم تلك المناصب الرسمية، بقي جعفر عباس قبل كل شيء كاتبًا ساخراً بالفطرة، يرى في السخرية أداة للتنوير لا للهجاء. كتب على مدى سنوات طويلة في صحف عربية بارزة مثل:
• الراية والشرق والوطن في قطر.
• الاتحاد في أبوظبي.
• القدس العربي والمشاهد السياسي في لندن.

وكانت له أعمدة مشهورة مثل “الزاوية الغبية” و”الزاوية الحادة” و”الزاوية الغائمة” و”الزاوية العكسية”، حملت في طياتها روح النقد الذكي والابتسامة الهادئة التي تُعبّر عن وجعٍ جميلٍ بلغة لا تجرح بل توقظ.
أصدر في عام 1994 كتابه الأشهر “زوايا غبية” (Obtuse Angles) الذي جمع فيه خلاصة روحه الساخرة وتجربته الممتدة في الكتابة، وحقق انتشارًا واسعًا في مكتبات الخليج والعالم العربي، وأصبح مرجعًا في الأدب الساخر الحديث.
في مسيرته، لم يكن جعفر عباس كاتبًا فحسب، بل صوتًا للحرية والعقلانية في وجه القهر السياسي والقيود الفكرية. اعتُقل في عهد جعفر نميري ثمانية أشهر في سجن كوبر بسبب آرائه الجريئة، لكنه خرج أكثر قوة وصلابة وإصرارًا على أن تكون الكلمة الحرة سلاحًا لا يُكسر.

لاحقًا، انتقل إلى شركة أرامكو السعودية متخصصًا في الترجمة، ثم إلى قطر حيث واصل نشاطه الإعلامي مترجمًا ومحررًا في مجلة الدوحة الثقافية وصحيفة الراية لمدة عشر سنوات. وفي مرحلة لاحقة، انضم إلى قناة الجزيرة حيث يعمل اليوم مديرًا لإدارة ضمان الجودة، جامعًا بين الخبرة الإعلامية الواسعة والرؤية الإبداعية الدقيقة.
تميّز جعفر عباس بقدرته على تحويل المأساة إلى ابتسامة، وعلى تقديم القضايا الكبرى في قوالب لغوية خفيفة الظل لا تخلو من العمق. وهو أحد الكتّاب القلائل الذين حافظوا على حضورهم لعقود دون أن يفقدوا روحهم أو نكهتهم.
ولا يزال حتى اليوم يكتب بانتظام في عدد من الصحف والمجلات العربية، مساهمًا في تشكيل الوعي العام، وملهمًا لجيل جديد من الكتّاب الذين وجدوا في أسلوبه مدرسة قائمة بذاتها.



