
مع إعلان قوات الدعم السريع فرض سيطرتها على منطقة أم دم حاج أحمد في شمال كردفان وقبلها الفاشر، تبرز الساعات الأخيرة كبداية فصلٍ جديدٍ في حربٍ باتت تمتد رقعتها بين جبال وكثبان السودان. المشهد الميداني الذي شهد تقدمًا سريعًا على محاور متباعدة — من بارا إلى الفاشر ثم أم دم — لم يعد حدثًا عسكريًا محليًا فحسب، بل رسالة استراتيجية مفادها قدرة طرفٍ مسلح على الانتقال من الهجوم التكتيكي إلى السيطرة الإقليمية المؤثرة، وهو تحولٌ يُحتم قراءةً متأنية لتداعياته العسكرية والسياسية والإنسانية، ولا سيما على مسارات التفاوض التي تشهدها البلاد.
الوتيرة السريعة للتقدم التي أظهرتها قوات الدعم السريع، ونجاحها في تحقيق مكاسب نوعية مثل الوصول إلى قلب الفاشر والاستيلاء على مواقع حسّاسة في محيط الفرقة السادسة، تعكس أولاً مستوى تنسيق لوجستي وميداني متقدّمًا بين جبهات دارفور وكردفان. هذا التنسيق ليس بالضرورة مجرد حشدٍ محلي، بل قد يحمل بصمات تخطيط قادر على نقل القوى من بؤرة إلى أخرى بسرعة، ما يضاعف ضغطها على خطوط إمداد الجيش ويجبره على توزيع قواه بين محاور متعددة. النتيجة المباشرة لذلك كانت في الأيام الماضية مزيدًا من التوتر على الجبهات وتكتيكًا دفاعيًا أكثر تحفّظًا من الجيش، الذي اضطر إلى سحب أو إعادة تموضع وحدات لحماية محاور حيوية، ما منح الطرف الآخر مساحات للمناورة.

على مستوى الهجوم المضاد، قابلت القوات الحكومية والمجموعات المساندة تصعيدًا بدفع بتعزيزات وتحريك قطع حربية لمنع مزيد من الاختراقات، لكن هذه الإجراءات، وإن كانت ضرورية لاحتواء التقدم، فقد حملت معها ثمنًا إنسانيًا وماديًا باهظًا؛ فالقصف المدفعي والاشتباكات في محيط بلدة أم بشار وخزان قولو تسبّبا في إصابات بين المدنيين، واستنزفا القدرة على تقديم الخدمات الأساسية، ما يعيد إلى الواجهة سؤال حماية السكان المدنيين في مناطق الاشتباك التي تتحول يومًا بعد يوم إلى مسارح نزوح وشقق ملجأ مؤقتة.
النتيجة الإنسانية لا يمكن تجاهلها: مدن مثل الفاشر استُنزفت على مدى ثمانية عشر شهرًا من الحصار والقصف وندرة الغذاء والدواء، وأي تغييرٍ ميداني يؤدي إلى تفاقم حصارٍ ما قد يُطلق موجات نزوحٍ جديدة، ويزيد من الضغط على مخيمات النازحين المجاورة والبلدان المضيفة. هذا الواقع يتحول إلى أزمة إنسانية لا تُقاس فقط بعدد المقاتلين الذين يسقطون أو يتراجعون، بل بحجم الفقدان الاجتماعي والاقتصادي الذي يُحدثه انقطاع الخدمات وحرمان الناس من مصدر رزقهم.

سياسيًا، تؤثر هذه المكاسب الميدانية لصالح الدعم السريع على مفاوضات السلام ومسارات الوساطة الدولية؛ فالورقة العسكرية القوية تُعيد صياغة موازين النفوذ على طاولة التفاوض. قدرة طرفٍ مسلّح على تحقيق سيطرة إقليمية تمنحه وزنًا جديدًا في أي عملية سياسية قادمة، وقد تُغري قياداته بالمطالبة بدور أكبر أو بشروطٍ أشد صرامة لقبول أي وقفٍ لإطلاق النار أو انتقالٍ سياسي. وفي المقابل، قد تزيد هذه المكتسبات من تعنّت الجانب الحكومي أو شريكه العسكري، الذي قد يرى في الدفاع عن المدن مثل الفاشر خطًا أحمر لا يمكن التنازل عنه، ما يطيل أمد القتال ويصعّب التوصل إلى تسوية سريعة.
الانعكاس الإقليمي والدولي لا يقل أهمية؛ فالتقدم السريع لقوات الدعم السريع يستدعي مواقف دولية أكثر حسماً أو، على الأقل، دعواتٍ عاجلة لحماية المدنيين وفتح ممرات إنسانية. تصريحات قوى دولية مطالبة بالالتزام بالقانون الإنساني وزيادة مراقبة الانتهاكات تضع الضاغط الدولي على الطرفين، لكنها في الوقت ذاته قد تُستخدم كأدوات تفاوضية أو للضغط السياسي الذي لا يواكبه تحرك ميداني فعّال يحمي المدنيين. ومع ذلك، يزداد عزل الأطراف التي تُتَهم بارتكاب انتهاكات مع زيادة التوثيق والضغط الدبلوماسي، وهو عاملٌ يمكن أن ينعكس على حسابات القوى المحلية فيما يخص المشروع السياسي المستقبلي.

المناخ الإعلامي والدعائي لعب أيضًا دوره في المشهد؛ فقد استُخدمت منصات تروج لانتصارات أو لنكسات، مما يزيد من ارتباك الواقع الميداني في أعين الجمهور وإمكان استغلال الأخبار الملفّقة لتقويض معنويات الطرف المقابل أو تبرير إجراءات تأديبية داخل المناطق المُحررة. هذا السجال المعلوماتي يزيد من ضبابية المشهد ويضع تحديًا أمام محادثات بناء الثقة التي تُعتبر شرطًا لا غنى عنه لأي اتفاق مستدام.
أمام هذه الوقائع، ثمة أسئلة استراتيجية عملية يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار من قِبل الفاعلين المحليين والداعمين الدوليين للمفاوضات: كيف يمكن تحويل أي تقدمٍ ميداني إلى حافزٍ للتفاوض بدلًا من أن يكون مصدرًا للتكبر السياسي؟ وما الوسائل الفعلية لحماية المدنيين في مدنٍ مثل الفاشر خلال أي عملية انتقال للسيطرة العسكرية؟ وكيف يمكن للمجتمع الدولي أن يربط بين التهدئة الإنسانية والتقدم السياسي بحيث لا يتحول وقف النار إلى فرصةٍ لإعادة التمركز العسكري على حساب سلامة السكان؟

الخلاصة أن سيطرة الدعم السريع على نقاط استراتيجية بين كردفان ودارفور تغيّر قواعد اللعبة الميدانية وتعيد تشكيل ميزان القوة على طاولة التفاوض. لكن القوة العسكرية وحدها لن تفرض حلًا سياسيًا مستدامًا؛ بل ستبقى الشرعية الحقيقية لحل الصراع مرتبطة بمدى قدرة أي طرفٍ على حماية المدنيين، وضمان مشاركة حقيقية وشاملة في العملية السياسية، والتوافق الإقليمي والدولي على قواعد تسوية تحفظ لسكان هذه المناطق حقوقهم ومستقبلهم. أما على طريق التهدئة، فالخطوات الضرورية عاجلًا تشمل فتح ممرات إنسانية محمية، وقف إضافي لإطلاق النار مع آليات تحقق محايدة، وضمان مشاركة محلية واسعة تضع حماية الناس أولًا قبل أي حسابات عسكرية أو سياسية.



