
عنف المليشيا الأرهابية وتوحشها مع الإحساس بالعجز في مواجهتها، دفع بعض المثقفين والوطنيين حسني النية ، للقول بضرورة دعم الجيش المختطف بل والتحالف معه، بزعم انه مؤسسة قومية، في إطار التبرير النفسي للتحالف الفعلي مع الحركة الإسلامية المختطفة للجيش التي لا يستطيع احد ان يبرر التحالف المباشر معها. والقول بأن هناك تحالف مع الجيش ، يتأسس على حقيقة أن الجيش الحالي ليس جيشا محترفا بل تنظيم سياسي انقلب على السلطة وهو يمارس السياسة وينشط في مجال العمل السياسي، عبر قيادته التي تعمل كواجهة للحركة الإسلامية وتأتمر بأمرها.
ولسنا في حاجة للقول بأن تبرير هذا التحالف بمزاعم أن الجيش المختطف مؤسسة قومية تخوض حرب كرامة وتدافع عما تبقى من دولة أمر غير صحيح ألبتة. وذلك لأن المؤسسة القومية يجب ان تكون مؤسسة دولة ، ولتكون كذلك لابد من أن توجد الدولة نفسها إبتداءا .
وفي تقديرنا المتواضع السودان الان ليس بدولة، فهو في احسن الفروض شبه دولة. فالواقع الان هو أن بلادنا بلا سلطة تشريعية، لأن الوثيقة الدستورية المعيبة التي مازالت هي دستور البلاد ساري المفعول ، جعلت السلطة التشريعية هي المجلس التشريعي الذي لم يتم تأسيسه بعد، وفي غيابه أعطت هذه السلطة – لفترة مؤقتة انقضت منذ سنوات – لمجلسي السيادة والوزراء مجتمعين، وهما مجلسان تم حلهما منذ انقلاب اكتوبر 2021م، كذلك لا توجد سلطة تنفيذية شرعية منذ تاريخ الانقلاب ، كما لا توجد هيئة قضائية مستقلة كما تتطلب الوثيقة الدستورية المعيبة. وفي غياب السلطات الرئيسية للدولة، لا يمكن ان تكون هناك دولة وبالتبعيّة يستحيل وجود مؤسسات دولة او جيش مؤسسي يعتبر من مؤسسات تلك الدولة المغيبة.
وإذا أخذنا الأمر من وجهة تعريف المؤسسة التي هي شخص اعتباري تحكمه نظم وقوانين، يسقط الجيش المختطف سقوطا مدويًا ايضا. وذلك لأنه جيش يخالف القوانين الحاكمة له ، فهو يمارس السياسة والحكم بالمخالفة لقانون القوات المسلحة، وايضاً يمارس النشاط الاقتصادي الطفيلي بالمخالفة لنفس القانون، وتقوده قيادة غير شرعية لم يتم تعيينها وفقا للقانون المذكور، الذي كان يعطي سلطة تعيين القائد العام للجيش للرئيس المخلوع، ومن ثم انتقلت السلطة لرئيس الوزراء المنقلب عليه عسكريا ، وكلاهما لم يعينا القائد العام غير الشرعي الحالي.
وهذه القيادة غير شرعية ايضا بموجب قانون معاشات القوات المسلحة، لأنها تجاوزت الستين من العمر وهي سن التقاعد، وعدم شرعية القيادة يعني حتما غياب المؤسسية وهدمها من اساسها.
فوق ذلك وبالإضافة اليه، القيادة الحالية للجيش المختطف ، خالفت قانون القوات المسلحة وارتكبت الجريمة المنصوص عليها في المادة (163) منه مرتين وهي جريمة التمرد التي تصل عقوبتها إلى الإعدام ، وذلك حين نفذت انقلاب القصر الذي قطع الطريق أمام الثورة في عام 2019، وحين نفذت انقلاب الموز الشهير في العام 2021م ضد الحكومة شبه المدنية للجناح التسووي في قوى الحرية والتغيير. وارتكاب جريمة التمرد من قيادة الجيش غير الشرعية ، يهدم المؤسسية ويذروا أسسها مع الرياح ويقوض أركانها. فتمرد القيادة الحاكمة للجيش يعني تمرد الجيش على المؤسسية وتقويض دور المؤسسة واخراجها عن مسارها المؤسسي وثيق الصلة بدورها العسكري.
يضاف إلى ذلك التغيير الهيكلي الذي حدث لهذا الجيش الذي بدأت عملية اختطافه وأدلجته منذ انقلاب الجبهة الإسلامية في العام 1989م، حين بدأت الأدلجة لخلق الجيش الرسالي، والسيطرة التامة على عملية الاستيعاب بالكلية الحربية لعناصر الحركة الإسلامية ، ثم اغراق الجيش بعضوية هذه الحركة من الجامعيين للسيطرة على افرعه الفنية ومركز توجيهه المعنوي وصياغة عقيدته القتالية التي تم تغييرها، مع السيطرة على أسلحته الفنية وصناعاته العسكرية ونشاطه الاستخباري ، وتهديم قواعد الضبط والربط فيه بتمكين صغار الضباط ورفعهم فوق قياداتهم العسكرية غير المنتمية للتنظيم المختطف للجيش، وسلب الجيش اهم خصائصه المؤسسية القائمة على التراتبية وسلسلة القيادة والسيطرة وتلقي الأوامر.
وغياب المؤسسية الذي قاد إلى الفشل في القيام بالدور العسكري والتحول للنشاط الاقتصادي الطفيلي كما سنرى في مقالات لاحقة، حتم القيام بتأسيس مليشيات مساندة نظريا وتقوم بدور الجيش عمليا كمليشيا الجنجويد الإرهابية ودرع السودان وكتائب الحركة الإسلامية المسيطرة على العمل العسكري فعليا ككتيبة البراء بن مالك الإرهابية. وبلغ الأمر فرض المليشيات على الساحة السياسية ومساواتها بالجيش المختطف نفسه مثلما حدث في الوثيقة الدستورية المعيبة ، التي جعلت من الجيش المختطف ومليشيا الجنجويد فريقان متساويان يكونان المؤسسة العسكرية. وفي مساواة هذه المليشيا الأرهابية بالجيش المختطف دلالة واضحة على مدى غياب المؤسسية.
ولسنا في حاجة للتأكيد بأن قيادة اي جيش هي التي تحدد طبيعته الاجتماعية ولأي شريحة اجتماعية يقدم خدماته. فحقيقة انه يحتوى على جنرالات وصغار ضباط وضباط صف وجنود من شرائح اجتماعية متعددة، وأنه يحتوي على أفراد وطنيين، لا تغير امر خضوعه لقيادة تحدد طبيعته الطبقية وفقا لسلسلة الأوامر والتعليمات. جنرالات الإنقاذ الإسلاميين هم من يقودون هذا الجيش المختطف، وهم جزء اصيل من شريحة الرأسمالية الطفيلية، يسيطرون عبر شركاتهم وشركات جهاز امن الإنقاذ على 82% من اقتصاد البلاد ويجيرونه لصالح الحركة الإسلامية ، بالسيطرة على تجارة الصادر والوارد، والنشاط في قطاع البنوك وشركات التأمين ورأس المال المالي، مع النشاط في القطاع الخدمي كذلك، وفي بعض الصناعات. ولذلك تجد الجيش المختطف يتبنى خطاب الحركة الإسلامية ، وينفذ خطها السياسي ، لا من مواقع سيطرة هذه الحركة على أسلحته الضاربة فقط، بل من مواقع انتماء جنرالاته للشريحة الرأسمالية الطفيلية المسيطرة على الاقتصاد، والمستميتة في الدفاع عن امتيازاتها ومنهوباتها إلى درجة إشعال الحرب لحماية التمكين واستعادة السلطة كاملة.
والتحالف مع مثل هذا الجيش المختطف بدعوى انه مؤسسة دولة، تكذبه الحقائق المثبتة أعلاه ، من غياب للدولة نفسها ومن سقوط للمؤسسية، مما يجعل هذا التحالف جوهريا تحالفا مع الرأسمالية الطفيلية المسيطرة، وطليعتها الحركة الإسلامية المجرمة ، وهو تحالف معاد لشعب السودان وثورته المجيدة ، وضد الحرية والعدالة والسلام معاً ، ولا يغير من ذلك انضمام حركات محاصصة جوبا له بأية حال من الأحوال.
والمطلوب هو الوقوف ضد هذا التحالف بحسم ، عبر رفض الحرب وعدم الانخراط فيها ، والتمسك بالشعار السليم ” لا للحرب ونعم للثورة”.
(*) كاتب وباحث قانوني