
في العيد الرابع للحرب، تراجع — على وقع تبعثر القلوب وتفرّق الأحبة — سؤال المتنبي، الذي ظل يتردد صداه كلما حلّت بنا الأعياد:
“عيدٌ بأيّة حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديدُ؟”
ليتقدّم، تحت وطأة الواقع وجراحه، بيت قصيده الثاني:
“أمّا الأحبّةُ فالبيداءُ دونهمُ،
فليت دونك — أيتها الحرب — بيدًا دونها بيدُ.”
إذ لم نعد قادرين على اليأس أكثرَ مما يئسنا.
رغم أن هذه الحرب، التي اندلعت قبل أكثر من عامين، قد حوّلت السودان إلى ساحة نزيف لا يتوقف.
عيد الأضحى، الذي يُعرف بعيد الفداء، يطلّ على شعب يبحث هو نفسه عن فداء من كل نوع: فداء من الجوع، من التشرد، ومن الخوف.
وفي قلب قصة عيد الأضحى، تكمن حكمة النبي إبراهيم وابنه إسماعيل، حين تحدى الإيمانُ المستحيلَ.
أمر اللهُ إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل، فاستجاب الأب بقلبٍ مطمئن، واستجاب الابن بطاعةٍ نادرة.
لكن السماءَ تدخلت، وجاء الفداءُ بذِبْحٍ عظيم، رمزًا مزدوجًا للرحمة والتضحية في آنٍ معًا.
هذه القصة ليست مجرد حكاية دينية، بل دعوة للتأمل: كيف يمكن للتضحية أن تكون سبيلًا للخلاص؟
فهل يمكن لروح الفداء أن تنقذ شعبًا من مأساته؟
السودان، حقًا، هو الآن بلدٌ ينتظر فداءه.
وللحقيقة، فإن المثيولوجيا الشعبية في السودان تعجّ بقصص عن الفداء، يُقدِّم فيها بعض كبار المتصوفة أنفسهم قرابين لإنقاذ الشعب من الأوبئة، ومن الحكومات الفاسدة.
ومن ذلك، روايات تقول إن السيّد الحسن الميرغني مات بوباءٍ ضرب كسلا، وبموته ارتفع الطاعون.
وكذلك، في سنة 1915، قيل إن الشيخ طه مات في رفاعة بالسحائي، فانقشع الوباء، وبموت الشيخ الرفيع بالجدري، زالت الجائحة.
كما ورد في رواية شهيرة عُرفت بـ”حديث الفداء”، أن الأستاذ محمود محمد طه طلب، في تلك الجلسة التي تم فيها هذا الحديث، أن تنشَد له “أغنية” الشاعر معاوية عبد الحي “أنا أم درمان”، التي يُغنّيها الفنان أحمد المصطفى، إنتبه لآخر بيت في هذه القصيدة ماذا يقول:
“فيا سودان، إذا ما النفس هانت
أُقدِّم للفداء روحي ونفسي.”
وعلى أية حال، فقد قدّم الأستاذ محمود، في صبيحة يوم 18 يناير 1985، نفسه “فداءً” للسودانيين، كما يعتقد بعضهم، إذ لم يُقتل أو يُجلد سودانيّ بعد ذلك اليوم، ولم يبقَ النميري على كرسي السلطة أكثر من 76 يوماً، هي بالضبط عدد سنوات عمر محمود في “الحياة”.
المهم، وفق معتقد بعض أهل السودان، فإن القرابين المباركة العظيمة من شأنها أن ترفع البلاء وتنزل الشفاء.
ليس ببعيد عن ذلك قول الشاعر محمود درويش:
“هيا
تقدَّم أنت وحدك،
حولك الكهّانُ ينتظرون أمر الله.
فاصعد، أيها القربان، نحو المذبح الحجري،
يا كبش الفداء، فدائيًا، واصعد قويًا.
وبالطبع، فلِمعتقد الفداء في السودان طقوسه وتقاليده الخاصة جداً، في هذا البلد الذي حوّلته الحرب اليوم إلى جحيمٍ مطلق: الجوع يفتك بملايين الأطفال، والكوليرا تنتشر كالنار في الهشيم.
أكثر من 25 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، وملايين آخرون نزحوا داخليًا أو تشردوا في دول الجوار.
وسط هذا الخراب، يبدو العيد كأنه ضيف ثقيل، يُذكّر الناس بما فقدوه، عوض أن يمنحهم الدفء والأمل.
وهنا ينشأ سؤال: هل العيد بحد ذاته ظالمٌ أم مظلوم؟
فما أكثر الذين وقفوا اليوم أمام بقايا سوقٍ كان يعجّ بالناس قبل الحرب، يفكرون في شراء خرافٍ للأضحية، لكنهم يجدون سعرها يفوق قدرتهم.
إذن، هذا “العيد ظالم”، بين آلاف الأُسَر التي تواجه ضغطًا اجتماعيًا للاحتفال بالعيد، وهي عاجزة عن توفير ملابس جديدة أو خرافٍ للأضحية.
أطفالهم ينظرون بحسرة إلى أقرانهم، وأمهاتهم يشعرن بالذنب لعجزهن عن إسعاد أبنائهن.
هكذا، يصبح العيد ظالمًا، لأنه أتى مترادفًا مع واقع الحرب والفقر معًا.
لكن هذا العيد نفسه، هو مظلوم أيضًا.
لأن جوهره الروحي يقوم على التضحية، وعلى التكافل، والتصالح، الذي يُطمَس الآن تحت وطأة ظروفٍ خارجة عن يده وإرادته.
ورغم كل هذا الألم، يظل العيد نداءً خافتًا في قلب العاصفة، يهمس بأن الإنسان لم يُخلق ليُطحن في رحى الجوع والدمار، بل ليحتفي بالحياة، ولو من فتات الذكرى.
فليكن هذا العيد، وإن جاء مثقلاً بالخراب، مناسبة نعيد فيها التمسك بالأمل، لا لأن الواقع يسمح، بل لأن الأرواح التي عرفت التضحية لا تستسلم.