مقالات

مصطفى : ما يزال يمشي وسط جموع التغيير (3/3) 

صلاح شعيب 

حينما كنا، وما زلنا، ننحاز بوضوح لمشروع مصطفى إبان عملنا الصحفي أثناء الفترة الديموقراطية الأخيرة، وحتى لحظة خروجه من السودان كان هناك مغنون، وزملاء، ومستمعون، يستنكفون هذا الانحياز الصارخ. 

بل إن هناك من كان يستغرب أسباب درجة الافتتان إن لم تكن التعصب التي سمت تصرفات كثير من الجماهير التي أحبته. 

ولكن الحقيقة التي لابد أن تقال إن جيلنا رأى في مصطفى معلمًا منضبطًا بمحبة بلاده أكثر من كونه فناناً وكفى.

كان بحق أستاذ جيل تعلمنا منه الكثير، وما نزال نكتشف في مشروعه الغنائي الكثير من الأفكار، هذا بخلاف الاستمتاع بصوته الواسع المدى. 

ويجدر هنا القول إن مساهمات أنبل شعراء المرحلة في هذا المشروع، والذين يتجاوز عددهم المائة، هي السبب في إثراء المعرفة بالأشكال الفنية الموحية للكتابة. فضلاً عن ذلك فإن هذا التعلق بمشروع مصطفى الفني يرتبط بالمواضيع المكثفة بالوطن التي أثرت في ارتباطنا الوجداني العميق بأهمية الإلتزام بتحقيق التطلعات المشرقة لهذه الجماليات والغايات الشعرية.

أما على مستوى الألحان، والصوت، فإن إحساسنا هو وجود المعادل الموضوعي للنصوص التي تترجم معانيها في علو وخفوض صوت ميلودية الفنان.

ولم نلحظ غياباً للتآلف بين النص الشعري واللحني. بل وجدنا أن طقس الألحان والإيقاعات مستمد من طقس الصورة الشعرية بصورة تنم عن معايشة مصطفى للنص، وإعطائه حقه، في التصور اللحني العام، وأحياناً نجد أن الكلمة الواحدة تتجسد بكيمياء روحها. 

والشيء الأهم هو أن مصطفى أسس بتواضعه المتناهي علاقة حميمة مع جمهوره، وذلك خلافا للصورة المتخيلة عن الفنانين.

فغالبهم لم يكونوا على قدر من التواضع حتى يستمعوا لآراء محبي فنهم، أو يتواددوا معهم بالقدر الذي فيه تتلاشى المسافة بينهم. فسلوك مصطفى كمعلم حميم بتلاميذه احتفظ به في شهرته الفنية، وزاد عليه بأن أثبت التزامًا مبدئيًا تجاه الفقراء، والبسطاء، الذين حدد أن تكون أغانيه تعبر عنهم، وفوقاً عن ذلك تبنى موقف المثقف الذي يسهم في التنوير من خلال التعبير عن القضايا الملحة التي تثير العقل، وليس فقط تناول الغناء العاطفي الذي يواسي القلب. 

ولكل هذا كان، وما يزال، الاحتفاء بمصطفى، ومشروعه، هو احتفاء بقدرته الإبداعية العالية في التعبير عن أولويات الإنساني السوداني الذي ظل يحلم بوطن ديمقراطي تتحقق فيه شروط النهضة كافة. 

ولا بد أن مشروعه الفني هو تعميق لتيار فنانين سبقوه، إذ أرادوا أن يجعلوا من العملية الغنائية ساحة لزيادة الوعي بالتساوق مع تيارات إبداعية في مجالات الفنون الأخرى. 

وفِي هذا الصدد ظل تأثير مصطفى كبيرًا على معظم الأجيال اللاحقة التي انطلقت بجديتها لتطوير ساحات الإبداع، والالتزام بقضايا البلاد.

إن مصطفى ما يزال يمشي الآن بيننا، ويحرض للتغير، وعسى بلادنا تنحو للاستقرار، وتتحقق فيها المضامين التي شدا بها حتى تهجع روحه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى