
تشهد منطقة حوض النيل لحظة فارقة مع إعلان إثيوبيا اكتمال جميع مراحل بناء وملء سد النهضة الإثيوبي الكبير (GERD)، حيث تراجعت مستويات مياه النيل الأزرق في السودان إلى مستويات غير مسبوقة. هذا التراجع، الذي تزامن مع موسم الفيضان التقليدي (يوليو – أكتوبر)، يشير إلى أن حجز كميات ضخمة من المياه خلف السد غيّر قواعد اللعبة المائية في المنطقة.

السودان: بين المكاسب والمخاطر
يرى خبراء سودانيون أن للسد انعكاسات مزدوجة على بلادهم. فمن جهة، يساهم في إنهاء الفيضانات الموسمية المدمرة، ويوفر تدفقات مائية مستقرة تعزز الري في مشروع الجزيرة، وتدعم الإنتاج الزراعي وتربية الأسماك، إلى جانب تحسين إدارة السدود السودانية مثل الروصيرص ومروي التي لا تتجاوز طاقتها التخزينية 19 مليار متر مكعب، مقارنة بـ74 مليارًا في سد النهضة. كما أن خفض نسبة الطمي بنسبة تصل إلى 50% يُحسن كفاءة شبكات الري ويطيل عمر السدود.
لكن في المقابل، يحذر باحثون سودانيون من مخاطر كارثية محتملة. ففي حال تعرض السد لأي خلل أو فتح غير منضبط للبوابات خلال فيضانات استثنائية، قد تواجه القرى والمدن السودانية موجات فيضان مدمرة، شبيهة بما حدث في كارثة 1988. إضافة إلى ذلك، فإن توقف الفيضانات الطبيعية يحرم الأراضي السودانية من تجدد خصوبتها بالطمي، مما يزيد مخاطر التصحر وتراجع الإنتاجية الزراعية.

مصر: أزمة أمن مائي مستمرة
بالنسبة لمصر، يمثل اكتمال ملء وتشغيل سد النهضة تحديًا وجوديًا. القاهرة ترى أن سيطرة أديس أبابا المنفردة على مصدرها الرئيسي من المياه تهدد أمنها المائي، إذ يعتمد أكثر من 100 مليون مصري على نهر النيل بنسبة تفوق 90% لتلبية احتياجاتهم. ورغم تأكيدات إثيوبيا أن السد لن يؤثر على تدفقات المياه إلى السد العالي في أسوان، تظل المخاوف المصرية قائمة، خصوصًا مع غياب اتفاق قانوني ملزم يضمن آلية ملء وتشغيل السد بطريقة لا تُضر بدول المصب.

البعد السياسي: إثيوبيا بين التنمية والانتهاكات
تقدّم الحكومة الإثيوبية السد على أنه مشروع قومي يرمز إلى السيادة والتنمية، وتؤكد أنه “أداة للتعاون لا للصراع”. غير أن هذه الرواية تتناقض مع سجلها الحقوقي المليء بالانتهاكات. تقارير أميركية لعام 2024 وثقت القتل خارج القانون، والتعذيب، والاعتقالات التعسفية، إلى جانب استمرار العنف في إقليم تيغراي وأمهرة وأوروميا. كما يواجه الصحفيون والفنانون المضايقات، بينما تُترك عائلات المختفين قسرًا بلا إجابات. هذه الانتهاكات تطرح تساؤلات حول قدرة أديس أبابا على الالتزام بمبدأ الشفافية في إدارة السد، إذا كانت عاجزة عن احترام حقوق مواطنيها.

البعد الإقليمي: صراع على الموارد والنفوذ
افتتاح السد يتزامن مع مساعٍ إثيوبية لتعزيز موقعها الجيوسياسي، بما في ذلك محاولاتها للبحث عن منفذ على البحر الأحمر عبر اتفاق محتمل مع أرض الصومال (صوماليلاند)، وهو ما يثير قلق الدول المجاورة. هذا التوسع يُنظر إليه كجزء من استراتيجية إثيوبية للهيمنة على المنطقة عبر السيطرة على أهم مورد حيوي: المياه.

التعاون أو الصراع؟
إثيوبيا تصف السد بأنه “أداة تعاون وتبادل منافع”، مؤكدة على شراكات فنية مع السودان لتبادل البيانات. غير أن غياب إطار قانوني جامع يزيد من حالة عدم الثقة، خاصة مع تاريخ التوترات بين أديس أبابا والقاهرة. بينما يستفيد السودان جزئيًا من استقرار التدفقات، تبقى مصر أكثر تشددًا خشية أن تتحول السدود الإثيوبية إلى وسيلة ضغط سياسي ومائي.

انعكاسات إقليمية وسياسية
افتتاح السد في منتصف سبتمبر يمثل حدثًا داخليًا ضخمًا لإثيوبيا، إذ تم تمويله بالكامل من المواطنين في ظل ظروف اقتصادية صعبة وصراعات مسلحة داخلية في إقليمي أمهرة وأوروميا وتيجراي. كما تحاول أديس أبابا تعزيز نفوذها الإقليمي عبر البحث عن منفذ إلى البحر الأحمر، ما يزيد من حدة التوترات في شرق إفريقيا.
سد النهضة لم يعد مشروعًا إثيوبيًا صرفًا، بل تحول إلى عامل استراتيجي يعيد رسم موازين القوى في حوض النيل. بالنسبة للسودان، هو فرصة للتنمية الزراعية وتحسين إدارة المياه، لكنه أيضًا مصدر تهديد إذا لم تُدار مخاطره بحذر. أما مصر، فترى فيه خطرًا مباشرًا على أمنها المائي ووجودها الحضاري.
الحل يكمن في اتفاق قانوني شامل وشفاف يضمن الحقوق المائية لدول الحوض كافة، ويحول السد من بؤرة توتر إلى رافعة للتكامل الإقليمي. وإلا، فإن المنطقة قد تواجه صراعًا طويل الأمد تتجاوز تداعياته المياه لتشمل الأمن والاستقرار في القرن الإفريقي وشماله.