تقارير

بين تل أبيب وطهران: أفريقيا في مهب الاصطفافات

تقرير - إدريس آيات

حينما أطلقت إسرائيل ضرباتها على البنية التحتية النووية والعسكرية الإيرانية منتصف يونيو 2025، دوت ارتداداتها في عمق القارة الأفريقية، حيث تنامى حضور طهران بهدوءٍ وفاعلية خلال العقد الأخير، فيما تمددت تل أبيب من بوابات الخليج إلى نوافذ الساحل والصحراء، وتقاطعت مصالح الخصمين في أقاليم لم تكن ساحة مباشرة للصراع، لكنها باتت كذلك بفعل الاصطفافات الجديدة والتحالفات المتبدلة.

فبمجرد إعلان الهجوم الإسرائيلي، سُجّلت اضطرابات مالية فورية في الأسواق العالمية، كانت أسواق الأسهم الآسيوية أول من تلقى الضربة، لكن شظاياها امتدت إلى أفريقيا، حيث أسواقٌ هشة تتنفس على هوامش الرأسمال العالمي. هرب المستثمرون من الأسواق الناشئة، وتراجعت قيمة الراند الجنوب أفريقي مثلاً، بنسبة 1.6%، بينما ارتفعت عائدات السندات الحكومية، في إشارة واضحة لانعدام الثقة.

أما على صعيد الطاقة، فقد قفز خام برنت بنسبة 5.8% ليصل إلى أكثر من 73 دولارًا للبرميل، وسط تحذيرات من اختراق حاجز الـ 100 دولار إذا تصاعد النزاع وامتد إلى مضيق هرمز أو منشآت النفط الخليجية. هذه القفزة المفاجئة في الأسعار هددت بوأد محاولات التعافي الاقتصادي في عدد من الدول الأفريقية المستوردة للنفط مثل غانا، التي شهدت تراجعًا حذرًا في معدلات التضخم خلال الأشهر الماضية.

 

الهشاشة الاقتصادية ومآلات الارتباط

في غانا مثلاً، صوّت البرلمان مؤخرًا على ضريبة جديدة على الوقود لتعزيز صندوق دعم قطاع الطاقة، خطوةٌ بدت إصلاحية حينها لكنها تُواجه الآن غضبًا شعبيًا متوقعًا في ظل تضخم متجدد. ومع تزايد الضغط على بنك غانا لتوفير الدولارات لمستوردي الوقود، تتوقع التقديرات ارتفاع أسعار المحروقات بنسبة 5-7% في غضون أسبوعين، وهو ما سيعيد تأجيج الشارع الذي لم يخرج بعد من عباءة جائحة كورونا وتداعياتها.

ولا يقف الأمر عند غانا. فشرق أفريقيا – من السودان والصومال إلى إثيوبيا – يعاني أصلًا من اضطرابات في سلاسل الإمداد الغذائي نتيجة الحرب في أوكرانيا، وها هو اليوم يواجه أزمة شحن جديدة عبر البحر الأحمر. 

هذا الممر، الذي يُعد شريانًا حيويًا للنفط والحبوب، أصبح أكثر اضطرابًا مع هجمات الحوثيين وتحولات شركات الملاحة من باب المندب إلى طريق رأس الرجاء الصالح، ما رفع تكاليف النقل وزاد من زمن الوصول، وهو أمر بالغ الخطورة على اقتصادات تعتمد على الاستيراد شبه الكامل.

 

إيران في أفريقيا: شراكات ما بعد الغرب

بينما كانت أنظار العالم موجهة نحو الخليج، كانت إيران تبني، طيلة السنوات الماضية، شبكة هادئة من العلاقات داخل أفريقيا. الجولة التي قادها الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي في يوليو 2023 إلى كينيا وأوغندا وزيمبابوي كانت بمثابة إعلان دبلوماسي صريح بأن طهران لم تعد تكتفي بالساحة الشرق-أوسطية، بل تبحث عن نفوذ بعيد عن الضغط الغربي.

مثلاً، كينيا، ثاني أكبر شريك تجاري لإيران في القارة بعد جنوب أفريقيا، تستورد المواد الكيميائية والبترول من طهران، وتُصدّر الشاي. أما أوغندا وزيمبابوي، فقد فتحتا الباب أمام شراكات في مجالات الطاقة والبنى التحتية والتدريب العسكري. بل إن طهران، عبر مؤسسات خيرية ومراكز ثقافية شيعية، رسّخت شكلًا ناعمًا من “الولاء الطائفي” في دول ذات أغلبية سنّية كنيجيريا مثلاً، في ظل غياب فاعلية – دينية- تركية أو سعودية موازية عكس ما كان عليه المذهب الوهابي في غابر الزمان.

وفي منطقة الساحل، فالوضع أكثر حساسية. في بوركينا فاسو مثلاً، دعمت الحكومة الانتقالية بقيادة الكابتن إبراهيم تراوري مبادرات تعاون مع طهران، ورحّبت بخطاب مناهضة الاستعمار الجديد. 

وفي النيجر، عززت إيران حضورها الديني والاقتصادي بصمت، لتستفيد من فتور العلاقة بين نيامي وباريس بعد الانقلاب العسكري الأخير. جميع تلك التقاربات الجديدة قد تتعرض لتصدّع إذا نشبت حرب شاملة بين طهران وتل أبيب، واضطر الحلفاء للاختيار.

 

إسرائيل والاصطفاف الإماراتي: النفوذ المضاد

في المقابل، عملت إسرائيل – بدعم واضح من الإمارات – على توسيع رقعة نفوذها داخل أفريقيا، خصوصًا من البوابة الأمنية. تعاون استخباراتي في تشاد، تدريب عسكري في إثيوبيا، ومساعدات تكنولوجية في أوغندا ورواندا، كلها كانت وسائل لإعادة ترسيم الخرائط الناعمة التي تعزز موقف تل أبيب ضمن معادلة ما بعد “اتفاقيات أبراهام”.

حتى في السودان، الذي يشهد حربًا داخلية طاحنة، برزت بعض الفصائل المحسوبة على محور أبوظبي-تل أبيب (ميليشيا الدعم السريع) كأعداء معلنين لطهران، واعتُبروا حائط صدّ ضد أي اختراق إيراني عبر الميليشيات الشيعية أو التحالفات الثورية. وهو ما وضع الخرطوم على مسار معاكس لمواقف دول مثل الجزائر وجنوب أفريقيا، التي لطالما تبنّت خطابًا رافضًا للهيمنة الغربية ومؤيدًا لفلسطين.

 

تحالفات تتشكل.. وولاءات تختبر

مع استمرار الحرب، يمكن القول إن الانقسام يتعمق في أفريقيا بين محورين:

– محور “اللاعنف الرسمي” بقيادة الجزائر وجنوب أفريقيا والنيجر، الذي يرى في دعم طهران نوعًا من مقاومة الهيمنة الغربية، ويستثمر في شعارات “الجنوب العالمي” ومناهضة الاستعمار الجديد.

– ومحور “البراغماتية السياسية” بقيادة رواندا وكوت ديفوار والمغرب، المتقارب مع إسرائيل بحكم المصالح الأمنية والتجارية.

هذا الانقسام مرشح للتفاقم مع طول أمد الحرب، خاصة إذا تحوّلت إلى حرب مفتوحة بالوكالة في اليمن أو لبنان أو العراق، وهو ما سيجرّ دولًا أفريقية إلى اصطفافات إجبارية، عبر الضغوط الاقتصادية أو التمويل التنموي المشروط.

ويظهر في هذه المحاور البعد الطائفي.. السلاح الخفي. في هذا السياق لا يجب أن يغيب عن التحليل البعد الطائفي كعامل تحريكي للولاء السياسي. ففي حين تبني إيران نفوذًا شيعيًا هادئًا في شرق وغرب أفريقيا عبر مؤسسات دينية وتعليمية، فإن السعودية، التي كانت ذات يوم رأس حربة “السنّة السياسية”، انسحبت جزئيًا من هذه المعركة، تاركة فراغًا استغلته طهران.

في المقابل، تنظر إسرائيل إلى هذه المساحات من خلال عدسة أمنية بحتة، فكل تمدد شيعي في أفريقيا يُنظر إليه كتهديد مباشر، خصوصًا إذا ما ارتبط بميليشيات عابرة للحدود يمكن تحريكها عن بعد، كما حدث مع “أنصار الله” الحوثية في اليمن، إلى جماعة الشيخ إبراهيم الزكزكي الشيعية في نيجيريا. وهذا أيضًا من شأنه أن تستهدف مصالح إسرائيلية في أفريقيا نصرةً لإيران إذا طال أمد الحرب، وهو ما لن يسمح به حلفاء تل أبيب كالولايات المتحدة الأمريكية.

وترتيبًا على جميع ما سبق، إن اتساع رقعة الأزمة الحالية في الشرق الأوسط، بين إسرائيل وإيران، سيتجاوز كونه حدثًا منعزلًا في نطاقه الجغرافي، ليُلقي بظلال ثقيلة على مناطق هشّة بطبيعتها الاقتصادية، وعلى رأسها بعض الدول الإفريقية ذات الاقتصاد الريعي. 

ففي حالة مثل نيجيريا، التي تعتمد على تصدير النفط الخام وتفتقر في الوقت ذاته إلى قدرات تكريرية كافية، ستُواجه البلاد أزمة مزدوجة: من جهة انخفاض العائدات النفطية نتيجة اضطراب السوق، ومن جهة أخرى ارتفاع كلفة استيراد المشتقات النفطية، ما يُهدد بتفاقم العجز المالي وتضييق هوامش الاستقرار الاجتماعي.

وعلى نفس المنوال، وفي نيجيريا ذاتها، فإن استمرارية الحرب بين إيران وإسرائيل قد تُعيد تحريك البُنى الطائفية الكامنة داخل البلاد، التي تحتضن واحدة من أكبر التجمعات الشيعية في القارة. ومع تصاعد الاستقطاب الإقليمي، فإن جماعات مثل “الحركة الإسلامية النيجيرية” بقيادة الشيخ إبراهيم زكزكي قد تجد في المشهد الراهن فرصة لإعادة التعبئة والتعبير عن تضامنها مع طهران، سواء عبر مظاهرات شعبية أو تحركات رمزية قد تتطور إلى احتكاك مباشر مع الأجهزة الأمنية، كما حدث في مرات سابقة.

ويُذكّرنا التاريخ القريب بأن المواجهات بين الدولة النيجيرية وهذه الجماعة لم تكن رمزية، بل انتهت بسقوط ضحايا في صفوف الشرطة وعناصر من الحركة، وانتهى باعتقال زكزكي نفسه لسنوات، قبل أن يُفرج عنه تحت ضغوط محلية ودولية. 

ومع تكرار المشهد الإقليمي ذاته في الشرق الأزسط—صراع يُحمّل بعدًا مذهبيًا وعابرًا للحدود—فليس من المستبعد أن يُستعاد هذا السيناريو من جديد. في حال شعرت الحركة الشيعية أن طهران تواجه “عدوانًا” مباشرًا بدعم غربي، فقد يتجاوز ردّها الاحتجاج إلى استهداف رموز أو مصالح يُنظر إليها بوصفها امتدادًا للنفوذ الأميركي أو الإسرائيلي في الداخل النيجيري، ما يُعيد البلاد إلى دورة عنف مألوفة، تُربك أولويات الدولة وتُضعف تماسكها الداخلي.

علاوة على ذلك، يُرجّح أن تتعرض بعض الدول الإفريقية المتحالفة سياسيًا مع طهران إلى ضغوط غربية مباشرة، سواء عبر تجميد المساعدات التنموية، أو من خلال إعادة النظر في الشراكات العسكرية والأمنية. وقد تكون زيمبابوي مثال محتمل لهذا النوع من التحوّل في السياسات الغربية، خاصة في ظل تنامي القلق من تشكّل محاور نفوذ إيرانية داخل القارة.

ختامًا، ومن منظور أوسع، لقد بات من الواضح أن إفريقيا لم تعد تعيش على هامش التفاعلات الشرق أوسطية كما في العقود الماضية. هي اليوم تمثّل ساحة اختبار لخرائط النفوذ الجديدة، وميدانًا صامتًا لتحالفات تبنى على الخوف من التهميش والطموح للنجاة. وبين طموحات تل أبيب وسياسات طهران، تقف القارة عند تخوم خريطة جيوسياسية تتشكّل على مهل، حيث لا مكان للحياد، ولا متّسع للتأخّر عن التموضع.

لكن -ومرة أخرى- جميع ما سبق على شرط استمرار الحرب بين الطرفين على المديَيْن المتوسط والطويل!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى