مقالات

من إبداع “الغابة والصحراء” إلى شفاهة “البحر والنهر” (3/3)

صلاح شعيب

في عصر ينزع إلى تجاوز – إن لم يكن تحطيم – الفوارق الإثنية، والأيديولوجية، والدينية، والثقافية، لصالح بناء حضارة إنسانية جديدة تستوعب كل منتجات حضارات العالم القديمة، والوسيطة، والعصرية، ينزع بالتوازي مع خطاب الانفصال الشمالي عن بقية أجزاء القطر إلى العودة إلى العشائرية العربية المتسودنة أفريقياً بوصفها سلالة جينية ذات تفوق أعلى قيمةً، وجنابا علياً، وجمالاً في ملامح الوجه مقارنة بالسلالات السودانية المالكة لأرض السودان قبل وفود العرب إليها. 

 

والأكثر من ذلك أن الخطاب الانفصالي الشمالي الساخر من إفريقية ملامح اللون، والأنف، ولهج اللسان للعربية الوافدة يتجاوز كونه عنصرياً، أو استعلائياً، ليتمظهر بأنه خطاب هتلري جديد، وذلك لأنه يعيد مفاهيم تفوق جينات على أخرى في ما خص عطائها العقلاني، ومساهمتها الحضارية، وقدرتها على النبوغ. 

 

ولو أن دعاة فكرة دولة البحر والنهر يسخرون من عربية بعض قبائل دارفور، وكردفان، والنيل الأزرق، فماذا يبقون من قدراتهم الساخرة عن عربية البجاويين، والنوبيين، الذين يشكلون عنصرا أساسياً لدولتهم المتخيلة. 

 

وللأسف وجدنا أن المقابل لهذا الخطاب الشمالي يواجه بخطاب آخر مضاد في ذات الاتجاه، إذ يستعير ذات النبرة التحقيرية ليحط من شعوب في الوسط النيلي بوصفها اصرة قبلية تفكر بطريقة واحدة دون إدراك التمايزات الإيديولوجية، والمعرفية، والفقهية للمجموعة الساكنة على ضفاف البحر والنهر معاً. 

 

أي أن خطاب مؤيدين للدعم السريع يستجيب بفعله الشفاهي أيضا ليعبر عن ردات فعل نحو سخائم بشرية قللت من إنسانيتها. 

 

وبهذا المستوى يبقى هذان الخطابان حرثاً خارج التاريخ، وعاجزاً، عن فهم حقيقة التعدد الجيني، والثقافي، للسودانيين، والذي كان من الممكن أن نباهي به العرب، والأفارقة، والعالم، إذا أحسنا توظيفه في إطار من السياسات الإنمائية المهتمة بإعلاء قيمة العدل، والشفافية، والتنوير.

 

سيظل السؤال قائماً عن قرب، أو ابتعاد، منظرو خطاب الانفصال الشمالي من المعرفة بقدم الإنسان السوداني الحالي، والذي لم يبداً تاريخه فقط مع قيام السلطنة الزرقاء كما دلت الحفريات الأركيولوجية، واللسانية، والتاريخية، والجينية، على عراقة سكان معظم البلاد. 

 

ولكن على كل حال يحتاج الانفصاليون الشماليون إلى إقامة حججهم على أرضيات معرفية، وليست عاطفية، والتنبه إلى أن إنسانهم المستهدف حتى يتخلى عن السودانوية متعدد في مرجعياته العقلانية، والأيدلوجية، والثقافية، وتجمعه النوازع العقلانية، والإنسانية، مع الآخرين قبل العاطفة المناطقية. 

 

ولو أن التظلمات، والمطالب التنموية من بعض السودانيين العرب – وغير العرب في الشمال، وخلاف الشمال – مفهومة، ومعقولة، ويتوجب إدراجها ضمن الهم الوطني القومي لمعالجة خلل العلاقة بين المدينة والريف، فإن أي خطاب مطلبي لأبناء الشمال بحاجة إلى التضامن القومي ما دامت المركزية السودانية قائمة على الحط من قيمة مساهمة الريف السوداني عموماً في المشاركة العادلة في صنع القرار، والصيغة المتفق عليها للإنفاق التنموي، والخطة الحكومية لعرض مظاهر الفعل الثقافي الريفي في الإعلام الحكومي. 

 

ولكن أن يتحول هذا الخطاب الشمالي للانفصاليين حدود المطالبة المشروعة بدولة لأهل البحر والنهر فقط مع إضافة موانيء الشرق وثروات شمال كردفان النفطية والزراعية والرعوية فإن الدول الجديدة لا تبنى بالعاطفة العنصرية فحسب، وإنما على قوة حجة خطاب الداعين إليها وفق اعتبارات عقلانية، وإنسانيّة، موضوعية.

 

إذا كانت الغابة والصحراء – مثالاً – ربطت تنظيرها النثري عن هوية سكان البلاد – وما يناسبهم من نظام سياسي – بإبداعات شعرية تمثلت في دواوين “العودة إلى سنار” للدكتور محمد عبد الحي، و”أمتي” للأستاذ محمد المكي إبراهيم، فما الذي يمكن ان يردف به منظرو الهوية الشمالية كلامهم من إبداع ليكملون به صورة التنظير الشفاهي حول دولتهم الافتراضية في سبيل حمل الشماليين على التعلق بآمال بلوغ غاية التحرر من بقية أجزاء السودان. والحقيقة أنه لم يكن إبداع خطابات المدارس الفكرية التي اشتغلت على خطاب جامع للهوية قاصراً على إبداع مدرسة الغابة والصحراء، فمعظم منظري الهوية المنتمين لتلك المدارس الفكرية قد عبروا شعراً، ومسرحاً، وغناءً، ورسماً، وتلحيناً، لتدعيم مقولاتهم النثرية حول ما ينبغي أن يكون عليه واقع هوية الدولة السودانية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى