مقالات

خالد الأعيسر : سيلفي على فوهة السقوط 

عبد الجليل سليمان 

في ظهيرةٍ تُذرُّ ريحُ البحرِ الأحمر رمادَ الملح على خرائبِ الخرطوم، بثَّ مذياعٌ مُحتضِرٌ خبرًا بدا كمحاولةِ صاروخٍ خاملٍ للهبوط على خيمةٍ بالية:

عودةُ خالد الأعيسر، الموقَّع بلقب “السوخوي”، وزيرًا للثقافة والإعلام في حكومة الدكتور كامل إدريس؛ مشهدٌ لا يذكّرك بشيء سوى أنّ العبث حين يعتلي منصةً رسمية، فإنه لا يكتفي بالخطابة، بل يرقص أيضًا.

 

سيرة بلا توقيع

وُلِد خالد الأعيسر في هامشٍ من الجغرافيا لا تعترف به الخرائط، وفي زمنٍ أقرب إلى هامش الحاشية منه إلى متن التاريخ. نشأ بين جدرانٍ شعبيةٍ تُعلَّق فيها صورٌ باهتةٌ لفنانين راحلين، وتُخبأ خلفها رسائل حبٍّ قديمة كُتبت على أوراق مدرسية مهترئة، بينما كانت الحواري تهمس بأن دريسة أعمق أثرًا من نيتشه، وأن الأغنية في تلك البيوت أكثر جلالًا من الفلسفة.

درس شيئًا يشبه الإعلام في الخرطوم، ثم هاجر إلى لندن متكئًا على حقيبةٍ من الطموحات المبلولة بالخذلان. هناك، تنقل بين قنواتٍ تُشبه الدكاكين، ومراكز أبحاثٍ تتكلّم كثيرًا ولا تقول شيئًا.

 

الاستقالة المدهشة

بلغ ذروة حضوره التلفزيوني – ليس خلال هذه الحرب كما يريدون له – بل حين انتزع سماعة الأذن، ونزع الميكروفون، في بثٍّ حيٍّ على قناة رياضية محلية ، مُعلنًا استقالته من إدارتها على الهواء بطريقة ميلودرامية تُشبه مشهد انتحار تمثيلي في عرضٍ رديء.

قال بوجهٍ يقطر جديةً مزيفة:

“هذه القناة لا تشبهني… وأنا لا أشبه هذا الوطن”.

وكأن أحدًا كان ينتظر منه نفي هذا التشابه أصلًا.

 

زيف الإعلام

لم يُعرَف له كتاب، ولا رؤية، ولا مشروع. لكنه أجاد شيئًا واحدًا: الوقوف في المكان الخاطئ، في التوقيت الخطأ، وهو يبتسم للكاميرا.

يرتدي الإعلام كما يرتدي المهرّجون عباءة الأمير في خيمة سرك متهالكة، يُكثر من الحركات ويقلّ فيها المعنى.

لا علاقة تربطه بالثقافة سوى ما يُسمّيه “الحضور الإعلامي”.

– خلط بين برتولد بريخت ومهاجمٍ احتياطي في حديث عن المسرح،

– وصرّح أن الرواية السودانية “لم تُشعل بعد”، وكأنها قطعة فحم مبلولة،

– وأطلق جائزة باسم “القول الثقيل”، ثم بدّلها إلى “القول الثقافي”، ثم نسيها تمامًا.

إنه الرجل الذي يخطب مهرّجًا أو مهرجِّلاً، يلوّح بيده كما لو يصرف سرب ذباب، ويتكلم كما يتكلم صاحب ماكينة تصوير تعطّلت فجأة: ضجيج بلا صورة، وادعاء بلا ورق.

 

سقر خلف السيلفي

حين قصفت الدعم السريع مستودعات الوقود المركزية في بورتسودان بطائراتٍ مسيّرة، كان أهل الميناء يهرولون بحثًا عن مأوى. وحده خالد الأعيسر هرع إلى قلب اللهيب، مرتديًا خوذة طُبعت عليها كلمة EXCLUSIVE، وأخرج عصا سيلفي تشبه رمحًا بلا هدف.

وقف أمام عدسة هاتفه، والنيران خلفه تبتلع السماء كأنها مشهد من يومٍ موعود. صاح بصوتٍ مرتجفٍ متوتر:

 

“أنا الآن في قلب الحدث… مشاهد حصرية!”

كانت سقرُ تشتعلُ وراءه، وهو يعدّل زاوية التصوير بحثًا عن إضاءةٍ أفضل، وكأن الخراب فرصةٌ دعائية.

تصفّح الجمهور تلك الليلة منشوره المزركش بالهاشتاغات، ولم يعلم أحد:

هل هو يبكي الخراب؟

أم يُبشّر به؟

 

العودة المهزلة

وصلته الوزارة – كما يُشاع – على هيئة «ميم» في تطبيق واتساب.

قرأه، ردّ بكلمة: “جاهز”، ثم نهض صباحًا إلى الوزارة كما ينهض الممثل إلى مشهدٍ ارتجاليٍّ في مسرحية بلا مخرج.

 

مشهد متكرر

في بلادٍ تُدار الثقافة فيها بقاعدة: “اكذبْ، تُسلّم وزارة”، ليس غريبًا أن يعود الأعيسر وزيرًا لثقافةٍ لا يؤمن بوجودها، ولا علاقة له بأبجديتها.

هو السوخوي؛ آخر الراقصين على سلك الكاميرا،

وأول من اعتبر النار خلفه ديكورًا مناسبا للسيلفي،

يعتلي المنصة لا ليمثّلنا، بل ليمثّل علينا.

وخلفه، تظل الصورة المطموسة لفنانٍ راحل،

معلقة على حائطٍ من وهم، ترمشُ كلما ابتسم المهرج.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى