
كامل إدريس ليس اسماً، بل حيلة لغوية. رجل خرج من كتاب القواعد، لا من دفتر الأحوال. حين يُذكر اسمه، تصحو القهوة وحدها وتبتسم الكرافتة. يبدو دائمًا كمن فُصّل على يد خياط مغترب، يحسن الوقوف أكثر مما يحسن السير، ويتقن اللغة أكثر مما يتقن الفعل.
ظهر فجأة، كما يظهر المنديل في قبعة الساحر: لا أحد يعرف كيف دُسّ ولا لماذا طار. لا جبهة له في الميدان، لا حزب يُسبّحه، لا جماهير تصيح: وااا كامل!
ومع ذلك… ها هو في واجهة العرض، مانيكان أنيق على جدار حكومة مؤقتة، كحلم يقظانٍ في عزّ الظهيرة.
مهمة معلّقة
قالوا إنه عاد ليُنقذ البلاد.
لكن البلاد كانت حينها قد تحوّلت إلى غرفة انتظار، والجمهور إلى شتاتٍ بلا عنوان، والسيادة إلى صفحة على فيسبوك.
كامل لم يكن في عجلة.
جلس، رتّب ربطة عنقه، رفع حاجبه الأيسر قليلاً، ثم قال للبحر:
“أنا رئيس الوزراء… وهذه هي بداية النص.”
حضور رخوي
هل رأيتموه؟
يمشي كما لو كان يطفو، يتحدث كما لو كان يعتذر للهواء، يبتسم كأن الابتسامة عقد عمل مع الضوء.
في مؤتمراته الصحفية، يبدو مثل رجل يتلو نشرة جوية عن كوكب لا يعيش عليه أحد.
يسألونه عن الجيش، فيحدثهم عن “التنمية الشاملة”.
يسألونه عن الحرب، فيحكي عن “الدبلوماسية الخلاقة”.
يسألونه عن المجاعة، فيتحدث عن ”بورتسودان كفرصة عظيمة لإعادة البناء الذاتي من لا شيء تقريباً.”
ثم ينظر للكاميرا، كأن الكاميرا أمّه.
مساء خاص
في الليل، يخلع كامل بدلته، يضع نظارته على طاولة زجاجية، ويمدّ رجليه كما يمدّ بلدٌ منكسر أمله.
يقرأ كتابًا عن النبوغ، ويهمس لنفسه:
“أنا العبقري الذي جاء في الزمن الخطأ، وفي البقعة الخطأ، وباللغة الخطأ.”
لكن ما الخطأ؟
الخطأ ربما في البلاد، التي كلما جاءت إليها فرصة، خلعتها كما تخلع نوبةٌ معطفها في عزّ القيظ.
وهم السيادة
كامل إدريس ليس رجل دولة، بل حالة جوية.
يتشكّل حسب الضغط الدولي، ويختفي إذا انخفضت الرطوبة.
قد تراه في مؤتمر، وقد تراه في شرفة مطلة على لا شيء.
لكنه لن يُنجز شيئًا، لأن ما أُوكل إليه لم يكن مهمة، بل تمويه.
لا أحد
هو ببساطة… الرجل الذي اختاروه لأن لا أحد آخر كان مستعدًا ليكون رئيس وزراء بلا دولة.
نعم، بلا دولة.
فالسودان يبدو كشظايا على الخريطة، ودموعًا على جفن الأمم المتحدة.
في الختام…
إذا كان هناك ختام،
نقترح أن يُمنح كامل إدريس جائزة نوبل في “التمثيل الواقعي لدور رجل دولة في بلد غير موجود”.
أو على الأقل، يُضاف إلى المناهج الدراسية في درسٍ عنوانه:
“هكذا تبدو الدولة حين يحكمها شخص ناعم كالحرير… والموتى حوله يتنفسون الحرب.”