
ها هو نهر القاش، باندفاعه الموسمي الجريء، يعانق مدينة كسلا الوارفة الظلال، في مشهد يُشبه اللقاء الأبدي بين الحنين والمحبوب. وما إن يحل موسم الأمطار، حتى تفيض عروقه بالحياة، قادمًا من مرتفعات إريتريا، مارًّا بسهول الشرق السوداني، ليفترش الأرض قبل أن يختفي في أحضان كسلا، دون أن يبلغ نهايته.
القاش ليس مجرد مجرى مائي، بل شريان نابض يضخّ الحياة في جسد الشرق السوداني..
على ضفافه تُروى الحقول ، وتُثمر الأراضي بمحاصيل الذرة والدخن، وتزدهر بساتين الفاكهة. تتسلل مياهه إلى باطن الأرض، فتغذي الخزانات الجوفية، وتمنح الزراعة والرعي نفسًا طويلًا من الاستدامة.
لكن كما للحياة وجهها الجميل ، لها وجه جارح..
فالقاش يحمل في جوفه مفاجآت ، حيث يفلت أحيانًا من مجراه ويغدو سيلًا جارفًا ، يغمر الأحياء ، ويُجبر الأهالي على النزوح ، ويُحوّل الطمأنينة إلى قلق . ولهذا تُبذل جهود حثيثة لبناء السدود والحواجز ، علّها تروّض جموح هذا النهر العصيّ ..
إنه نهر لا يُروى فحسب، بل يسطر قصة المكان والإنسان. هو ذاكرة تتجدد كل عام ، وعطاء يتقاطع مع الخطر، لكنه لا يتخلى عن دوره كمصدر للحياة ، وملهم لجمال الطبيعة في كسلا .. تتراقص حوله الأشجار ، وتلوّن الأزهار ضفتيه ، وتُحاكيه الحكايات في المجالس.
نهر القاش ليس مجرى مائيًّا فحسب، بل ملحمةٌ حيّة من العطاء والعناد، من الحب والهيبة، من الجمال والخوف، لتبقى كسلا مدينة تكتبها الماء ، وتنقشها الطبيعة في ذاكرة الشرق.
من خلاله أصبحت كسلا قبلة السياح وملهمة الشعراء
“القاش و شمس الصيف
والقيف يعاين القيف
والدمعة في الرملة
ما بْتحكي شوقك كيف
باكر بعود القاش
ترجع عيونو حنان
وتطير تداعب الموج
بجناح نسيم ريّان”