
على رغم من مآسي النزوح الداخلي ومواجع الشتات في المنافي، إلا أن الفنون السودانية لعبت أدواراً مؤثرة لمقاومة الحرب من خلال أعمال عدة كشفت حقيقة الصراع المسلح والدفاع عن كرامة الإنسان، سواء من خلال الرسم والموسيقى والمسرح، وكذلك الشعر أو السينما.
واللافت أن الفنانين في مناطق النزاع نجحوا في تحويل معاناتهم وتجاربهم إلى أعمال فنية الهمت الآخرين ووثقت التاريخ من منظور إنساني، فضلاً عن العمل على تقارب المجتمعات المحلية المتنازعة وتوحيدها ونبذ الكراهية والعنف وتعزيز التعايش السلمي والتسامح، ورتق النسيج المجتمعي من خلال الأعمال الفنية المتنوعة.
نبذ العنف
منذ اندلاع الصراع المسلح في الـ15 من أبريل 2023، شرع عدد كبير من التشكيليين في تنفيذ معارض عديدة داخل وخارج البلاد لنبذ العنف والدعوة إلى السلام، كما قدم المسرحيين اعمالاً نوعية في بورتسودان وكوستي ومدني وعطبرة، إلى جانب برامج متواصلة في مراكز إيواء النازحين السودانيين، في وقت قدم فيه الشعراء والفنانين أعمال عديدة.
مقاومة وتنوير
على الصعيد نفسه، يقول المسرحي معمر محي الدين – مدير مركز بشيش للفنون لمنصة (مشاوير) إن “المركز لعب دوراً مهماً في محاصرة خطاب الكراهية وتعزيز التعايش السلمي، سواء قبل أو بعد الحرب، ويعمل المركز على تعزيز قيم التسامح والسلام من خلال الفنون الأدائية، مثل المسرح والموسيقى والرقص، وهناك العديد من البرامج والفعاليات التي قام بها المركز قبل وبعد الحرب مثال لذلك، تعزيز ثقافة السلام التعايش من خلال عروض مسرحية موسيقية تروج للوحدة الوطنية والتعايش بين مختلف المكونات الاجتماعية والعرقية في السودان، وكانت هذه الفعاليات تهدف إلى تصحيح الصور النمطية السلبية التي قد تعزز من خطاب الكراهية بين مختلف الفئات، وكذلك (مهرجان بشيش للمسرح التفاعلي -مشروع إدارة الأراضي من أجل التعايش السلمي في دارفور وعروض مختلفه بجنوب كردفان).
وأضاف “نفذنا برامج تدعو إلى التوعية والمشاركة المجتمعية من خلال الفعاليات الفنية وورش العمل.
وتابع : المركز يشجع على الحوار بين الأفراد والجماعات المختلفة في المجتمع السوداني، مما يساهم في تقليل الاستقطاب والتمييز العنصري والمناطقي، فضلاً عن نشر القيم الإنسانية التي روج لها المركز بمختلف القوالب الفنية، كقيم التسامح، الاحترام المتبادل، والتفاهم بين الأفراد من خلال الفنون، بجانب إيصال رسائل ضد العنصرية، التعصب، وبالتالي تعزيز التسامح داخل المجتمع السوداني.
وأوضح معمر أن مركز بشيش للفنون الأدائية صمم عدد من الفعاليات لمواجهة خطاب الكراهية من خلال الفن “بعد اندلاع الحرب” وهي الفترة التي أصبح فيها خطاب الكراهية أكثر وضوحاً وانتشاراً بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية والامنية، وفي هذا السياق يعمل المركز على مواصلة جهوده لمحاصرة هذا الخطاب من خلال المسرح والفنون الأدائية التي تسلط الضوء على آثار العنف والكراهية وتدعو إلى المصالحة وبناء السلام.
وأردف : في سبيل ذلك يعد المركز لتقديم أعمال درامية، بودكاست، جولات فنية لمعسكرات اللاجئين السودانيين بكل من (جنوب السودان، كينيا ويوغندا وتشاد، علاوة على دعم المصالحة الوطنية، ويعمل المركز على تقديم برامج وفنون تهدف إلى علاج الجروح النفسية والاجتماعية التي خلفتها الحرب، ومثلت العروض الفنية جزءًا من إعادة بناء الروابط الاجتماعية بين الفئات المختلفة، وتقديم مساحة للحوار حول قضايا الهوية والاستقرار المصالحة، إضافة للتمثيل الشعبي والتفاعل مع المجتمعات المتضررة من خلال العروض التي تقدم في المناطق المتأثرة بالحرب.
لافتا إلى أن “مركز بشيش لعب دوراً محورياً في محاصرة خطاب الكراهية في السودان، من خلال تقديم بدائل ثقافية وفنية تعزز من قيم التسامح والسلام، سواء في الأوقات التي تسبق النزاع أو في فترات ما بعد الحرب.
أدوار مؤثرة
وفي ذات السياق، أشار الموسقار حسام عبد السلام إلى أهمية الفنون ودورها في توحيد الأمة.
وأضاف أن الكون قائم على التباين والإختلاف، وهذة سمة جمالية ودليل على عظمة الخالق الذي كان بإمكانه أن يعتمد مبدأ التطابق والآحادية في خلق كل شئ.
وأشار حسام في حديثه لمنصة (مشاوير) إلى أن “إظهار جماليات التنوع هو من أهم وسائل الفنانين، من أجل الوصول لغاية أسمى هي قبول الإختلاف وبالتالي قبول الآخر المختلف وإحترامه على الأقل إذا لم يتوفر الحب.
وتابع “فن الموسيقى والغناء لعب دوراً أساسياَ في تشكيل وجدان الشعب السوداني، بل وصل في مراحل إلى توحيد الوجدان عبر خلق لغة ولهجة موسيقية سودانية خالصة هي مزيج من مختلف الأنماط الموسيقية المنتشرة في كل ربوع السودان الكبير، كما تقبل الناس التراث الغنائي لمختلف الأعراق وتأثروا بألحانه على الرغم من وجود حاجز اللغات واللهجات، لكن أثر الصدق الفني لامس شغاف القلوب.
وزاد : من البديهي أن يلعب الفن دورا محوريا في نبذ خطاب الكراهية، لأنه يعتمد مبدأ المحبة، موكداً أن الرعيل الأول من الآدباء الفنانين في كل مجال ساهموا في ارساء هذه الثقافة وعملوا على تمليك المفاتيح للأجيال التالية واللاحقة من الفنانين، أبرزها استلهام تراث المجموعات العرقية المختلفة، سوا كان ألحان أو إيقاعات أو مفردات أو أمثال شعبية في المنتوج الحديث، وبالتالي التاريخ البعيد والقريب شاهد على مساهمات المبدعين في نشر ثقافة الحب والسلام.
رسائل سامية
من جهتها، ترى الكاتبة الروائية آمنة الفضل أن للفن دور كبير في نبذ خطاب الكراهية، طالما أنه يقدم رسالة سامية تساعد على تجاوز الفكر المتحيز، ويعزز التواصل والتفاهم بين مختلف الأطياف والجماعات ويرفع روح الوعي الوجداني، فتنصهر كل الثقافات في بوتقة واحدة تحمل فكراً واحداً وهما واحدا هو السلام والتسامح.
وأضافت : الفن يفرد بأشكاله المختلفة مساحات للحوار وتبادل الثقافات بين الشعوب، وذلك عبر الموسيقى والمسرح أو السينما والدراما أو ربما بالأدب والشعر والتشكيل، كل هذه الأطياف من الفنون تعمل بشكل أو بآخر على تفتيت المشاعر البغيضة في المجتمعات حتى يعم التعايش والإنصهار التام فتتبدل الكراهية إلى حب والحرب إلى سلام.
قيم التسامح والمحبة
على الصعيد نفسه، أوضح الناقد الفني مصعب الصاوي أن “الفنون بطبيعتها وفي جوهرها دعوة للحق والخير والجمال، وهي بحكم هذه الطبيعة منحازة لقيم التسامح والمحبة وحتى أشد الأطراف خصومة وعداوة قد تلتقي في لحن جميل أو كلمة شاعرة أو لوحة ملهمة، لأن الفنون تخاطب المشتركات الإنسانية بغض النظر عن اللون والعرق والجنس.
وأضاف : خطاب الكراهية يسعى للتفرقة بين الأفراد والمجموعات والفنون تسعى لتوحيدهم، كما أن خطاب الكراهية يهدف لخلق العداءات والحقد والانتقام، لانه خطاب سالب وهدام بينما الفنون تسعى لإرساء قيم التسامح والمحبة وهي قيم إيجابية فعالة وبناءة.
وتابع : ليست الفنون وحدها وإنما الرياضة كذلك، ففي الحضارة اليونانية وعندما يأتي موسم الألعاب الأولمبية في الكولوزيوم تنعقد الهدنة ويأتي المتحاربون وقد وضعوا أسلحتهم خارج الأولمبياد، وهو مايحدث الآن في كرة القدم عندما ينعقد كأس العالم.
وأكد الصاوي أن “الفنون والرياضة تمدان جسور الألفة والتعارف على مستوى المجموعات السودانية رغم اختلافاتها العرقية، فالمصارعة مثلا رياضة اصلها جبال النوبة لكن برعوا فيها آخرين، كذلك النقارة فن إيقاعي راقص ارتبط بقبيلة بعينها لكن كل قبائل كردفان الكبرى صارت تتفاعل مع هذا الإيقاع وتنسجم وتبدع داخله فكأنما شكل النغم وحدة وجدانية بين تلك المجموعات العرقية المتباينة، وخير مثال لدور الفنون في جمع الناس هو الدور الذي لعبته اغنية أم درمان عبر الاذاعة السودانية، فقد وحدت هذه الاغاني وجدان السودانيين في كل بقعة من ارض السودان فصارت كل أجزائه لنا وطن إذ نباهي به ونفتتن.