
السيدات والسادة، تحايا عابقة بالودّ والتقدير، آمل أن نحظى جميعًا بأمسيةٍ دافئة، تليق بذائقتكم، وتمنح جهدنا المتواضع الذي نسعى من خلاله إلى تلمّس نبض الجمال، اجنحة لتحلق بها.
بدءًا، دعوني أقول – وبكل تواضع – إن حضوركم يمثل شرفًا كبيرًا لنا، ويضفي قيمة عظيمة على هذا العمل المتواضع الذي نحن بصدد تدشينه. فهذه الأمسية هي، قبل كل شيء، أمسيتكم أنتم، لذلك أستاذنكم في أن أقدّم بين أيديكم إضاءة قصيرة عن “أدب الرسائل”؛ لا بصفتي خبيرًا، بل قارئًا محبًّا لهذا الفن العذب الذي يشبه النبض البشري، ويحمل في طياته التلقائية، الجمال، والمشاعر الصادقة.
إنه من الصعب تأريخ أو تزمين نشأة أدب الرسائل بدقّة، غير أن كثيرًا من الباحثين يُجمعون على أنّ الرسائل كانت من أوائل وسائل التواصل بين البشر، بدءًا من الملوك والساسة في فترات السلم والحرب، مرورًا بالتجار والمسافرين، وانتهاءً بالمحبّين والمفكرين والأدباء. لقد شكّلت الرسائل تمهيدًا طبيعيًّا لظهور المقال الأدبي والنثر الحُر، قبل أن تستقل كجنس أدبي له فرادته وسحره الخاص، فهي تعبير تلقائي، إنساني، لا يخلو من دفء وعذوبة، ولا يُراد له التكلف أو الزيف.
في عالمنا المعاصر، وبين ضغوط الحياة وتسارع التكنولوجيا، كادت الرسائل التقليدية أن تُطوى، لذلك قصدنا من خلال هذا العمل المتواضع بعنوان: “عن لا شيء.. عن كل شيء”، إحياء تلك الروح القديمة — روح الرسالة التي تنبع من القلب، وتُصاغ بكلمات حقيقية، تلقائية ترفض التكلف. وبالتالي إستعادة آثار هذا الأدب المهدد بالإندثار!.
و رهاننا هنا على الجمال الكامن في البساطة، على الكلمات التلقائية التي لا تحتاج إلى مؤثرات صوتية ولا رموز تعبيرية كي تبلغ مدى القلب.
ولمن يظن أن أدب الرسائل لم يعد يواكب العصر، نجيب بأنّ الجمال لا يشيخ. صحيح أن وسائل الاتصال الحديثة قد أذابت الزمان والمكان –الركيزتان الاساسيتان لفن المراسلات– وجعلت الرسائل تختصر بكلمة أو وجه تعبيري، لكن تبقى الرسالة المكتوبة — بخط اليد أو بروحها الأصيلة — فعلًا إنسانيًا راقيًا، واحتفاءً نادرًا بالعاطفة والتفكير البطيء في زمن السرعة.
لقد عرف هذا الفن أوج تألقه في نهاية العصر العباسي، عندما أُنشئ “ديوان الإنشاء” وعُهد إلى أدباء متخصصين في كتابة الرسائل. ويطلق على كبيرهم (رئيس ديوان الإنشاء).
تنقسم الرسائل عمومًا إلى نوعين:
الرسائل الديوانية، وهي الرسمية والعامة، والرسائل الإخوانية، وهي الخاصة، بين الأصدقاء أو الأحبة أو أفراد العائلة.
في الأدب العالمي زخرت المكتبات برسائل لا تُقدّر بثمن:
كـ”رسائل كافكا إلى ميلينا”، و”البير كامو إلى ماريا كازاريس”، و”جبران خليل جبران إلى مي زيادة”، و”العقاد إلى مي”، و”غسان كنفاني إلى غادة السمان”، وكتاب “هنا والآن” لبول أوستر و ج. إم. كوتزي، وكتاب “رسائل السجن” لأنطونيو غرامشي إلى والدته، وكتاب “رسالة إلى ابنتي” لمايا أنجلو، وكتاب “أخي العزيز” بين حسين أمين وجلال أمين، وكتاب “84، تشارينغ كروس رود” للكاتبة هيلين هاف، وهي مراسلات ممتدة على مدار عشرين ظلت الكاتبة/القارئة ترسلها لمتجر كتب مستعملة في لندن!. كل هذه الرسائل كانت صوتًا نقيًّا للذات، تُكتب حين تعجز الحياة عن التفسير، وتُقرأ حين نحتاج لمعنى.
السيدات والسادة ..
نحن، في هذه الأمسية، نحتفي بأدب يُشبهنا: بسيط، صادق، وعميق.
أدب يُعيدنا إلى الإنسان فينا، إلى الكلمة حين تكون مرايا، لا أقنعة.
لذلك كان: “عن لا شيء.. عن كل شيء”، كتاب عن اللحظات العابرة، عن المدن التي تسكننا، عن الثقافة ، عن اللغة، عن الحب عن الحنين، عن الأمس الذي لا يمضي، وعن الغد الذي لا يأتي إلا بكلمة.
شكرًا لحضوركم الجميل، ولإصغائكم الأجمل.
ولنراهن معًا على التلقائية، وعلى الانتماء للجمال.
* مجتزأ من، مؤانسة عن أدب الرسائل قدمت بمركز سينياس هاب في أمسية تدشين كتاب (عن لا شيء عن كل شيء) الصادر عن دار الموسوعة الصغيرة للطباعة والنشر والتوزيع
* سايمون اتير، كاتب وروائي جنوب سوداني.