
في أعقاب الإعلان عن تشكيل “الحكومة التأسيسية”، دخلت الساحة السياسية السودانية مرحلة جديدة من التوتر والتشظي، إذ سارعت أحزاب وكيانات إلى إعلان انسلاخها أو تجميد عضويتها في تحالفات كبرى، فيما اختارت قوى أخرى الوقوف على الهامش. هذا المشهد المرتبك يطرح سؤالا حاسما: إلى أين يتجه السودان؟
ترتيب أوراق
توالت بيانات الانسحاب والانقسام من أحزاب كانت إلى وقت قريب تُحسب ضمن قوى التغيير أو المعارضة المدنية. بعضها برر موقفه بالاعتراض على آلية تكوين الحكومة التأسيسية، وآخرون تحدثوا عن “تفريط في مبادئ الثورة” أو “استئثار جهات بعينها بالقرار”.
هذه الانقسامات ليست جديدة في المشهد السوداني، لكنها تأتي هذه المرة في سياق بالغ التعقيد: حرب مستمرة، وضع إنساني متدهور، وغموض في مستقبل الدولة نفسها.
وما تشهد القوى المدنية والسياسية من انقسامات حادة لم تعد محصورة في خلافات تنظيمية او صراعات على النفوذ، بل تعكس – بحسب مراقبين – انهيار البنية السياسية التقليدية، وفقدان المشروع الوطني الذي يجمع الاطراف المختلفة تحت رؤية موحدة.
في هذا السياق، يقول القيادي في الحرية والتغيير – التيار الوطني، نور الدين صلاح:
الانقسامات التي نشهدها ليست مفاجئة، فقد كشفت الحرب هشاشة التحالفات القديمة التي كانت تُدار بمنطق التوازنات لا البرامج، ومع غياب القيادة المجددة والتقييم الصارم، تتكرر الانشقاقات ويزداد تآكل الثقة الشعبية.
ويرى نور الدين ان ما يحدث الآن هو نتيجة طبيعية لانهيار المرجعيات المدنية القديمة، لكنه لا يخفي وجود محاولات جادة داخل التيار الوطني ومبادرات مدنية ناشئة لاعادة تعريف المشروع المدني نفسه، ليس بوصفه حصة في السلطة، بل مهمة تاريخية لبناء الدولة على اسس جديدة.
حكومتان
يُطرح في المشهد السوداني سؤال جوهري: هل دخلت البلاد رسميا مرحلة الشرعيتين؟
يرد نور الدين صلاح على هذا الطرح بقوله:
ليس من الدقة وصف الوضع بانه صراع بين شرعيتين، فالشرعية لا تستمد من الغلبة العسكرية او الاعلان الاحادي، بل من الارادة الحرة للشعب والتوافق الوطني، وهو ما لا يتوفر لا في حكومة القوات المسلحة ولا في مجلس الدعم السريع.
وبالنسبة له، فان ما يجري اليوم هو صراع بين مشروعين: مشروع دولة مدنية تبنى على المؤسسات والديمقراطية، ومشروع فوضى مسلحة يسعى لفرض نفسه بقوة السلاح والانقلابات.
تداعيات التعدد السلطوي: انهيار مؤسسات وثقة
يرى كثير من المراقبين ان تعدد الحكومات لا يفضي فقط الى ازمة سياسية، بل الى تفكك حقيقي في بنية الدولة، حيث تنعدم القدرة على تقديم الخدمات، وتُشل المؤسسات العامة، وينهار النظام الاداري.
ويؤكد نور الدين هذه المخاوف بقوله:
تعدد مراكز السلطة يؤدي الى تعميق معاناة المواطنين، وانهيار مؤسسات الدولة، وفقدان الثقة في اي سلطة مركزية. نحن لا نحتاج الى شرعيات وهمية بل الى شرعية واحدة نابعة من توافق وطني شامل.
بين الشلل والاحياء
في خضم هذا الانقسام، تتطرح تساؤلات حول مصير العملية السياسية. هل انتهت فعلا؟ ام ما زال هناك امل في اعادة بنائها؟
يرى نور الدين ان العملية السياسية لم تمت سريريًا، لكنها تمر بحالة شلل عميق، ويضيف:
لا توجد جهة واحدة يمكنها احتكار تمثيل السودانيين. الشرعية لا تبنى على الاستهبال السياسي او الغلبة العسكرية، بل على التوافق الشعبي والارادة الحرة.
وبحسب نوراين يقترح التيار الوطني رؤية ثلاثية لانعاش المسار السياسي:
1. قيادة سودانية مستقلة للعملية، دون وصاية خارجية.
2. تمثيل شامل وتفويض شعبي حقيقي.
3. هدف واضح: انهاء الحرب وبناء دولة مدنية تقوم على حكم القانون والمؤسسات.
ويشير نور الدين الى ان وفدا مدنيا، ضم التيار الوطني ومكونات اخرى، زار الاتحاد الافريقي والايقاد، حاملا هذه الرؤية، في مسعى لاعادة المبادرة الى ايدي السودانيين.
على حافة الهاوية… ام بداية جديدة؟
الوضع السياسي في السودان لم يعد يحتمل التجميل او التسويف. الانقسامات العميقة، وظهور حكومتين، واحتدام الصراع المسلح، كلها مؤشرات على ان البلاد تقف على حافة تحلل الدولة.
لكن في المقابل، يرى بعض الفاعلين – كما التيار الوطني – ان الازمة قد تكون فرصة لتأسيس مشروع سياسي جديد، يتجاوز النخب القديمة والتحالفات المهترئة، ويعيد تعريف العمل المدني كمهمة وطنية شاملة لا تُقاس بالمناصب، بل بارادة التغيير الجذري.
وفي انتظار توافق جامع، يبقى المواطن السوداني في مواجهة يومية مع الجوع، والنزوح، والقتل… في انتظار دولة لم تُولد بعد.