منوعات

اشعل البحار وأبارك الليل – كون الشعر تنهيدة الغياب

حامد بخيت الشريف

في كتابها الشعري (اشعل البحار وابارك الليل) تقدم رحمة السيد عبد القادر، طقسًا شعريًا ناضجا تتجاوز فيه القصيدة حدود البوح التقليدي، متوغلةً في مساحات من اللغة التي تسعى لاختبار فتنة الانفلات وجمالية الغموض. 

فقصائد الكتاب منذ فاتحة نشيدها تتشابك كأنها حلمٍ يعبر بالكثير من المشاهد غير المتسلسلة. 

غير أنها -المشاهد- تخلق من فوضاها نسيجًا دقيقا من المعنى، حيث تسكن المفردة في حالتها الأولى: تعبيرًا عن العاطفة قبل أن تصبح تركيبة نحوية.

ما يلفت في هذا العمل هو أن التجربة الشعرية تتأسس على توترٍ عاطفي داخلي يجترح اللغة من روح الشعر ذاته، لتصبح الكلمات امتدادًا لمزاج كامل يتداخل فيه الشعر وروح الشاعر ، حيث لا يمكننا الامساك بقاموسٍ ثابت، فتكرار ثيمات الحب والغياب والليل والبحر كفضاءات رمزية، يخرج بها القاموس الشعري الموّلد في نصوص رحمة من وظائفها المعتادة إلى وظائف جديدة كليا ، فالحب عندها تقشفٌ جمالي، طقسٌ “مقدّس”انظر قولها:

  “للحبِّ طقوسٌ أقدّسُ سرَّها”، 

هذه الجملة وحدها يمكن ان تفسر احتفاء رحمة ، بشكها ، بلا يقينها وانفعالاتها الناعمة.

تنأى شاعرتنا بلغتها عن التعبيرات الوصفيه الظاهرة، وتستعيض عن الوصف بالبوح الرمزي والتمثيلات الصوتية.

إذ تخلق العلامات والتشكيلات الغريبة -إدخال حروف أو رموز صورية ضمن الجمل- نوعًا من الموسيقى البصرية التي تعيد تشكيل النص كلوحة يمكن أن تُرى.

فاللغة عند رحمة حادة، متقلبة، وتنهل من منابع الحلم والأسطورة في الآن ذاته، فهي تكتبها مدفوعة بشغف لحظتها. 

أما نسيج نصها الفني، فيعتمد على الانزياح الدائم والانقطاع، كأن كل مقطع يولد من رماد المقطع الذي يسبقه. 

تُبنى القصائد على تراكم الصور وتشابكها، وهذا ما يجعل قراءة نصوصها تجربة شعورية أكثر من كونها معرفية. 

تُفاجئك القصائد حين تُقلِّد الفلسفة أو تُغازل الحكمة، لكنها تفرّ منها سريعًا إلى حضن الغنائية المتخففة من الدلالة. 

كأنها أنطلقت من قوله تعالى:( كُنْ)لتصير تَكوُّناً مستمرًا لما يُراد لنا أن يشعر به.

وهي كذلك تنظر الى الغياب كجوهر وجودي، والغابة والبحر والالم والأنوثة كأنها استعارات لنفسها المنكشفة والمتلصصة عبر اللغة. 

فهي تعيد إنتاج حالتها الشعورية في أشكال متعددة، تجعل من كل قصيدة إجابةً غير مباشرة على سؤال واحد: كيف يمكن للإنسان أن يهرب من حنينه؟

ختاما في كتاب رحمة السيد الشعري اشعل البحار وابارك الليل مساحة للانغماس. 

إنه تجربة تُكتب بالمجاز وتُقرَأ بالحدس، وتستجدى ذاكرتنا في القراءة أن تتناولها كطقسٍ شعري ناضج.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى